فيس بوك
العديني: التوافق الذي شهدته عدن مفتاح رئيسي للحل والواقع بحاجة لتوحيد الجهود والطاقات
الحكومة تبارك إشهار التكتل الوطني وتعتبره جهدا وطنيا مميزا في لحظة تاريخية
إشهار التكتل الوطني للأحزاب والمكونات السياسية وإقرار لائحته وأهدافه (نص بيان الإشهار)
المهرة.. اجتماع لفروع الإصلاح بالمديريات الغربية يدعو لتعزيز وحدة الصف
الإصلاح بالمهرة يحتفي بذكرى التأسيس واعياد الثورة اليمنية ويؤكد على وحدة الصف الوطني
إعلامية الإصلاح بالحديدة تكرم كوكبة من رموز الفن والفلكلور التهامي
أحزاب تعز تطالب الرئاسة والحكومة بتحمل مسؤوليتهما في انقاذ الاقتصاد الوطني
الوصابي: ما تقوم به مليشيا الحوثي بحق الإصلاح واليمنيين ككل جرائم لن تسقط بالتقادم(حوار)
الإصلاح وفلسطين.. ثوابت راسخة في دعم القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع
للإسلام مرحلتان اثنتان، أو تاريخان اثنان:
1ــ الإسلام قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إسلام جميع الأنبياء كما سنرى، وتعود جذوره الأولى إلى آلاف السنين قبل الميلاد. قبل إبراهيم وموسى وعيسى.
2ــ الإسلام المحمدي الذي "تمّمَه" وصححه محمد صلى الله عليه وسلم، في بداية القرن السابع الميلادي. كما يقرر هو نفسه ذلك. "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق".
عرفَ اليمنيون "الإسلامَ التاريخيَّ" قبل تنزُّل الديانات السّماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، من خلال كلمة التوحيد التي أوحى بها الله إلى أنبيائه الأُول نوح وهود وصالح ولقمان، وغيرهم من الأنبياء الذين لا نعملهم، وهؤلاء قبل ظهور الأديان الإبراهيمية بآلاف السنين، إذا يذكر المؤرخون أن حقبة هود عليه السلام تعود إلى الألف السابع قبل الميلاد، حسب إشارة المؤرخ الشّمَاحي في كتابه "اليمن الإنسان والحضارة".؛ أي قبل نبي الله إبراهيم بخمسة آلاف سنة، وقبل نبي الله موسى بخمسة آلاف وخمسمئة سنة، وقبل نبي الله عيسى بسبعة آلاف سنة، وقبل نبي الله محمد صلى الله عليه بسبعة آلاف وخمسمئة وسبعين سنة، على وجه التقريب. انظر: اليمن الإنسان والحضارة، عبدالله بن عبدالوهاب الشماحي، منشورات المدينة، بيروت ــ لبنان، ط:3، 1985م، 48.
ينتسب اليمنيون إلى قحطان بن هود بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وهو وارث العرب العاربة من قوم عاد الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية في صحراء حضرموت.
وقبل أن نتكلمَ عن وحدانية قحطان بن نبي الله هود عليه السلام، نود الإشارة أولا إلى أن دعوة أبيه هي دعوة التوحيد بالله عزو وجل والإيمان به، وله سورة في القرآن الكريم سميت باسمه، وفيها فلسفة دعوته الإلهية التي دعا بها قومه:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ. يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) هود: 50: 57.
كما يخاطبُهم أيضا:
(وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ). الأعراف: 65: 67.
وقبر نبي الله هود ــ عليه السلام ــ مشهود مَزُورٌ إلى اليوم في حضرموت. وهو رابع الأنبياء بعد آدم أبي الإنسانية، فإدريس، فنوح، ثم هود.
كذلك أيضا كانت دعوة نبي الله صالح ــ عليه السلام ــ (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ). هود: 61.
قحطان والتوحيد
ورث الدعوةَ عن هود ابنُه قحطان؛ حيث تذكرُ المصادرُ التاريخية أنّ قحطان بن هود وصى بنيه قائلا: "إنكم لم تجهلوا ما نزل بعادٍ دون غيرهم حين عتوا على ربهم واتخذوا آلهة يعبدونها من دونه، وعصوا أمر نبيهم هود، وهو أبوكم الذي علمكم الهدى، وعرفكم سواء السبيل، وما بكم من نعمة فمن الله، وأوصيكم بذي الرحم خيرا، وإياكم والحسد فإنه داعية القطيعة فيما بينكم، وأخوكم يعرب أميني عليكم وخليفتي بينكم، فاسمعوا له وأطيعوا، واحفظوا وصيتي واعملوا بها، واثبتوا عليها تُرشدوا". انظر: تاريخ العرب قبل الإسلام، عبدالملك بن قريب الأصمعي، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين، منشورات المكتبة العلمية، ط: 1، 1959م،
وتؤكدُ نصوصُ المسند أنّ اليمنيين كانوا موحدين "ذي سموي" و "الإله رحمن" من قبل أن تصل اليهودية والمسيحية إلى اليمن، ويبدو أنهم اهتدوا للتوحيد من تلقاء أنفسهم، بعد أن مروا بالديانة الوثنية البدائية، فالديانة الكوكبية التي تُعتبر المرحلة الثانية من مراحل التدين التي مر بها الإنسان وقد تطور عقله وإدراكه أكثر، وصولا إلى التوحيد وتعظيم "إله السماء" الواحد الأحد، كمرحلة أخيرة توصل لها الإنسان، وقد قطع أشواطا من الشك، كما هو الشأن مع نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي ألّه القمر أولا فالشمس، وأخيرا آمن بالله عز وجل إلهًا واحدًا لا شريك له.
وقد وردت نصوص مسندية ورد فيها اسم الإله "ذي سموي" التي تعني "صاحب السماء" أو "ذو السماء" المتفرد في أمره ونهيه.
والواقعُ أن الاسم "ذي سموي" كان قد عرفه اليمنيون القدماء واستعملوه بما يدل عليه من معنى "الوحدانيّة" في فترة متقدمة، بعضها أبعد زمانا في قدمها من زمان ظهور الديانات السماوية التوحيدية، ومن ذلك:
1ــ ما عثر عليه في منطقة همدان من نقوش، تروي نصوصها أن أصحابها إنما راحوا من خلالها يتقربون إلى الإله "ذي سموي"، وكان تدوين هذه النصوص قد تزامن مع تدوين نصوص نذرية أخرى، وُهبت للإله "تألب ريام" الخاص بهمدان، وذلك في فترة لم تكن عقيدة التوحيد قد ظهرت بعد، أو انتشرت في الأصقاع المترامية الأخرى، أو أن ملامح فكرتها ــ على الأقل ــ لم تكن قد عُرفت في الآفاق البعيدة.
2ــ ذلك النقش المُدوّن على لوحة برونزية صغيرة، عُثر عليها في موضع "هجر بن حميد" الواقع في نطاق دولة قتبان، ومن دراسة وتحليل هذه اللوحة من نص نقشي اتضح أنها كانت قد صُنعت في حوالي القرن الأول الميلادي، أي قبل أن تظهرَ الدياناتُ التوحيدية السماوية في اليمن بثلاثة قرون. انظر: دراسات في التاريخ الحضاري لليمن القديم، أ. د. أسمهان سعيد الجرو، دار الكتاب الحديث، 2003م، 144 فما بعدها.
3ــ كشفت نصوصُ المسند في بعض المواقع الأثرية عن بعض أسماء الله الحسنى التي عرفها اليمنيون من قبل الأسماء، مثل "سميع" و "عليم"، وذلك في نقش توسل وتضرع، نصه: "بحق عثتر وهوبسن والمقه وعليم وسميع، وبحق ذات بعدان، وبحق شمس الملك تنوف". نفسه، 142. وانظر: نقوش مسندية وتعليقات، مطهر علي الإرياني، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، ط:2، 1990م، 123 فما بعدها.
كذلك وجد الاسم "حكيم/ حوكم" وهو من أسماء الله الحسنى. وجاء ذكر الإله "س م ع" في عدد من النقوش اليمنية القديمة من دون لقب، فيُنعتُ به أو متبوعا، ونظرا لخلو خط المسند من التشكيل فيمكن أن يُقرأ اسم هذا الإله "سَمْع، سَميع، سامع، سماع، ويعني: شهادة/ وثيقة. وفي الجعزية نفس المعنى؛ لذا فاسم الإله يعني الشاهد أو الشهيد المطلع على كل شيء، وهي مادة لغوية، تعرفها كل اللغات السّامية، وعلى الأرجح أنه كان يُدعى سميع. انظر: آلهة اليمن القديم الرئيسة ورموزها حتى القرن الرابع الميلادي، دراسة آثارية تاريخية، محمد سعد عبده حسن القحطاني، رسالة ماجستير، جامعة صنعاء، 1997م، ص: 50.
من كلمة التوحيد إلى توحيد الكلمة
انتشرتْ ديانة التوحيد اليمنية بصورة واضحة في الربع الأخير من القرن الرابع الميلادي، كامتداد سابق لها، وذلك بعد حوادث سياسية هامة، جرت في جنوب الجزيرة العربية، فلم يأت القرن الرابع الميلادي إلا وجنوب الجزيرة العربية قد توحدت بقيادة شمر يهرعش، أول من حمل اللقب الملكي الطويل "ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات"، وكان لا بد أن يرافقَ هذا التوحيد السياسي توحيدٌ ديني، والذي ظهرت مؤشراته في عهد "أبي كرب أسعد الكامل"، ولكن الطبيعة المختصرة للنقوش اليمنية القديمة لا تسمح لنا أن نقرر نهائيا ما إذا كانت هذه الديانة التوحيدية هي اليهودية أو المسيحية، وفقًا لما يراه المستشرق بيوتروفسكي. انظر: ملحمة عن الملك الحميري أسعد الكامل، بيوتروفسكي، م. ب، ترجمة: شاهر جمال آغا، وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، 1984م، 68.
إن اتحادَ القبائل اليمنية المتعددة والواسعة في دولة واحدة، أو بالأصح تحت راية امبراطورية موحدة لا شك أنه لاحِقٌ لتوحُّدها فكريًا؛ لأن الاتحاد الفكري والعقائدي سابق للاتحاد السياسي، وهو ما رأيناه لاحقًا عقب ظهور الدعوة المحمديّة، فقد كانت العرب متفرقة، ثم وحّدها بعد ذلك بكلمة التوحيد، ومن ثم الوحدة السياسية التي تأسست لاحقا في دول فحضارات، ابتداء من دولة صدر الإسلام في تبلوراتها الأولى، ثم الأموية، فالعباسية، وآخرها العثمانية.
تلك الوحدة العقائدية السماوية أسست للوحدة الاجتماعية والسياسية اليمنية، ومن ثم كان التوسع في كثير من البلدان التي وصلها اليمنيون قبل الإسلام.
لقد انفرد قدماءُ اليمنيين بعبادةِ هذا الإله "الرحمان" الذي لم يكن معروفًا بهذا الاسم لدى عرب الشمال إلا في وقتٍ لاحق، ما يشهد بأن هذا "المعبود" نابعٌ من أفكار دينية ذات طابع توحيدي يمني المنشأ، فقد بدأت عبادة هذا الإله في اليمن القديم قبل الميلاد واستمرت حتى نهاية عصر الحضارة اليمنية قبل بزوغ فجر الإسلام. ويبدو أن هذه الخصوصية اليمنية لكلمة "الرحمان/ الرحمن" قد ظلت عالقة في الأذهان إلى ظهور الإسلام، ولهذا جادل بعض المشركين الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب ذكره للرحمن (قالوا وما الرحمن)؟ فأنزل الله عليهم: (قل ادعو الله أو ادعو الرحمن أياما تدعو فله الأسماء الحسنى) ولقد ظل لكلمة الرحمن تمييز خاصٌ في القرآن الكريم والمأثور الشريف، وهو أمر لا يخفى على المتضلعين في العلوم الإسلامية. انظر: نقوش مسندية وتعليقات، مطهر علي الإرياني، مركز الدراسات والبحوث اليمني، ط:2، 1990م، 417، وانظر أيضا، تطور الحياة الفكرية لليمنيين القدماء، عبدالرحمن عمر عبدالرحمن السقاف، أطروحة دكتوراه، جامعة صنعاء، 2007م، 210.
وقد بقيتْ بالرسم الحميري الذي يُسقط حرف العلة من وسط الاسم حتى اليوم.
وهكذا فإنَّ عبادةَ "الرحمن" تعتبرُ شكلا من أشكال التوحيد، وكانت واحدة من مظاهر التوحيد ضد الشرك وعبادة الأصنام وتعدد الآلهة والدعوة إلى إله واحد "الرحمن".. وبهذا يكون من الصعب علينا أن نرجع عبادة الرحمن إلى اليهودية أو المسيحية، فعلى الرغم من ارتباط هاتين الديانتين السماويتين بالرحمن، إلا أن "الرحمن" ظهر في نقوش لم تتصل بهما، وبذلك تكون عبادة "الرحمن" حسبما جاء في نقوش جنوب الجزيرة عبادة مستقلة عن اليهودية والمسيحية. انظر: الصراع الديني في جنوب الجزيرة العربية من القرن الرابع حتى السادس الميلادي، ذكرى عبدالملك المطهر، رسالة ماجستير، جامعة صنعاء، 2003م، 26 فما بعدها.
ويعزز هذا الرأي ما ذهب إليه الباحث عزالدين كشار، بقوله: "إنّ التوحيدَ الإسلامي انعكاسٌ للتوحيد العربي الجنوبي، ونظرةُ التوحيد الإسلامي إلى الله نظرة عربية جنوبية". اليمن دنيا ودين، عزالدين كشار، د. ت، د، د. 112.
ويضيف: "ذلك يعني أنّ فكرةَ أو نظرةَ التوحيد كانت قد وُجدت في اليمن قبل اعتناق أهله للأديان التوحيدية اللاحقة بزمن بعيد، حتى أنّ أهل هذه الأديان قد استفادت منها، فكانت بالنسبة لها بمثابة المقدمة التي لا بد منها، كما كانت هذه الأديان امتدادًا طبيعيا متطورًا لهذه الفكرة الأولى بمضامينها التوحيدية المتطورة..". نفسه: 112.
إن في شِعرِ قس بن ساعدة الإيادي النجراني روح التوحيد الخالص قبل الإسلام، حين يتكلم عن البعث والنشور "يوم الصيحة" ولا شك أن فكر وثقافة قس بن ساعدة جزء من ثقافة مجتمعه، وأن صوته الشعري هنا تعبير عن ثقافة سائدة، إذ يقول:
يا باكيَ الموت والأموات في جدثٍ عليهم من بقايا خزهم حرق
دعهم فإن لهم يوما يُصاح بهم كما ينبه من نوماته الصدق
حتى يجيئوا بحالٍ غير حالهم خلق مضى ثم هذا بعد ذا خُلقوا
أما خطبتُه الشهيرة فهي أشهر من أن نعيد تكرارها هنا. وهي ناطقة بالتوحيد والإيمان والبعث والنشور. وقِس بن ساعدة الإيادي النجراني اليماني هو أول من أظهر التوحيد في مكة قبل البعثة النبوية.
كلُّ دينٍ يوم القيامة عندالله إلا دين الحنيفية زور
وهذا زهيرُ بن أبي سلمى يشيرُ صراحة إلى التوحيد؛ مؤمنًا بالبعث والنشور، والحساب والعقاب، من قبل الرسالة المحمدية، بتأثيرِ التوحيد اليماني الذي انتشر في أرجاءِ الجزيرة العربية، يقول في معلقته:
فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِ
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ
هذه بعضٌ من ملامح ومعالم التوحيد اليماني في عهوده القديمة، المُسمّاة عند البعض العهد البائد، وما تبعها من العهود حتى فترة ظهور الإسلام، والتي انتشرت في أنحاء الجزيرة العربية، مع أن ما وصَلَنا من فكر وموروث هذه العهود هو الشيء القليل جدا، سواء منقوشًا على الأحجار في نصوص مسندية، ومخربشات أثرية، أو من أخبار الرواة وتدوينات المؤرخين. ولا شك أنَّ الكثيرَ من الدلائل والأسانيد الأثرية قد تعرضت للاندراس بفعل تقادم الزمن، وبعضها لا يزالُ مطميًّا، ورهنَ الإهمال حتى الآن.
وإذا كانت قد برزت بعضُ الوثنيات العقائدية بين عهد وآخر من عهود التاريخ، فإنما يعود ذلك إلى طبيعة الانحرافات الدينية التي تطال الأديان، كل الأديان بلا استثناء، سواء الأرضية أو السماوية، بفعل اجتهادات "الأحبار والرهبان" الذين يجعلون من أنفسهم ممثلين للسماء، ولكل دين أحباره ورهبانه؛ بل وفقهاؤه الذين أساؤوا للدين من حيث أرادوا له النفع، ولذا تتالت الأديان، وكل دين ينسخ ما قبله ليؤسس لشرعة جديدة، بعيدة عن تحريفات المبطلين وتزييفات الواعظين، وإلا لاكتفت الأمة عبر تاريخها بديانة واحدة فقط. وقد تعرضت المعتقدات والأفكار اليمنية سابقا لبعض التزييفات والتحريفات عن أصلها "الوحدانية"؛ لكنها سرعان ما تعود إلى أصلها الحقيقي؛ لذا لا غرابة حين تنزلت شريعة الإسلام التي صدح بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أن هبَّ اليمانيون زرافاتٍ ووحدانا أولَ القوم مستجيبين؛ لأنها معتقدهم الأصل، ولم تكن فكرة التوحيد غريبة عنهم، في الوقت الذي كانت غريبة على بعض مجتمعات عرب الشمال الذين استغربوا مندهشين (أجعل الآلهة إلها واحدا)؟!!
ويعزو الدكتور جواد علي ظهورَ الشرك وتعدد الآلهة بين فينة وأخرى في بعض المجتمعات إلى عوامل طبيعية وتاريخية وسياسية واجتماعية متفرقة زمانا ومكانا، مشيرًا إلى أننا نجد وجهة نظر الشعوب عن الآلهة أو الإله تختلف باختلاف ثقافتها ومستواها الاجتماعي، وللوضع السياسي دخلٌ كبير في الشرك وفي عدد الآلهة وفي شكل الدين.. كذلك عامل الجوار والاتصال الثقافي الذي يؤدي إلى اقتباس الآلهة المجاورة، وقد تطغى الآلهة الجديدة على الآلهة القديمة. انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 42/6.
فالتوحيدُ فكرةً وشعيرةً وما استتبعه من بعض التشريعات الدينية كالنذور والكَفَّارات والصلوات والزكاة والحج بجميع أركانه، كل هذه طقوسٌ وممارساتٌ شائعة عرفها اليمنيون من قبل "الإسلام المحمّدي" كما أشرنا آنفا، وإن بصيغٍ وهيئاتٍ مختلفة جزئيا؛ إضافة إلى منظومة التشريعات السياسية والاجتماعية الأخرى؛ ولذا فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق". والتتميمُ استيفاءٌ في نقص، وليس خلقًا لعدم.
وكما يقول المفكر الإسلامي عباس محمود العقاد: "فالتوحيدُ لم يكن مجهولا قبل عصر إبراهيم، وكذلك ميزان العدل الإلهي، وكذلك عبادة الحق..". انظر: إبراهيم أبو الأنبياء، عباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، د. ت، 8.
وهنا نستطيع القول أنه كما كانت اليهودية والمسيحية والإسلام امتدادًا لحنيفيّة إبراهيم عليه السلام (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَّلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ سورة آل عمران آية 67؛ فإن حنيفية إبراهيم نفسها امتدادٌ للتوحيد اليماني قبل ذلك الذي صدح به كلٌ من هود ــ عليه السلام ــ وبنوه من بعده، وكذا نبي الله صالح، في حضرموت من اليمن. وكل هؤلاء كانت دعوتهم التوحيد والإسلام قبل أن تظهر دعوة إبراهيم عليه السلام بقرون طويلة، وهي دعوة التوحيد وعبادة الله:
فهودٌ ــ عليه السلام ــ يخاطب قومه: (اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 65]
ويخاطب نبي الله صالح قومَه بذات اللهجة والخطاب: (اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 73]
ولهذا خاطب الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25]. وهؤلاء الرسل جميعًا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وجميعهم في اليمن، وجلهم دعوا للتوحيد.
إذن ــ وبموجب الإشارات القرآنية ــ فاليمن بلدُ التوحيد الإلهي الأول منذ آلاف السنين؛ ولهذا كانت البيئة اليمنية أخصبَ البيئات الدينية بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفكرة ليست جديدة عليهم أساسًا، بل إنهم حاملوها الأوائل.
ليس هذا فحسب؛ لقد كان اليمنيون هم عمادُ الدعوة المحمديّة الجديدة في عصر صدر الإسلام؛ حيث نشروا هذه الدعوة في مختلف الأرجاء. في العراق والشام ومصر والمغرب وفارس وأذربيجان والأندلس، وغيرها. نشروها: فاتحين وولاة ومعلمين ورجال دين.
كان اليمنيون مستعدين نفسيًا لتقبل الفكرة التجديديّة التي لامستْ حالة الفراغ التي شكلتها الصراعاتُ السياسية، "الأقياليّة" في مرحلة الصراعات الداخلية، عقب غزوين خارجيين "الأحباش والفرس"؛ فكانوا يرون فيها استعادةَ ذاتهم الحضارية التي ارتبطت أساسًا بدعوة التوحيد منذ آلاف السنين قبل ذلك، ومعها تشكلت امبراطوريتُهم التاريخية، فتماهوا مع الدعوة الجديدة، مخلصين لها، ومدافعين عنها، غير أنهم اصطدموا بإبقاء الفرس عليهم من قبل سلطة المدينة أولا؛ لأنّ دعوةَ الإسلام عامة للناس كلهم، عربًا وفرسًا وتركا وحبشًا، وغيرهم، وهذا ما لم يستسيغوه في جملتهم، لمعاناتهم من الفرس قبل ذلك، فلهم مع الفُرس تجربة سلبيّة سابقة، ولأنه محتلٌ أولا وأخيرًا، ثم بالنزعة الاستعلائيّة القرشيّة ثانيًا، وقد استطاعوا التخلصَ من الأولى، فيما بقيت الثانية داءً تاريخيًا منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم.