الأحد 08-12-2024 17:58:46 م : 7 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار
الشيخ الأحمر.. حكيم يماني أخير
بقلم/ فهد سلطان
نشر منذ: 5 سنوات و 11 شهراً و 10 أيام
الجمعة 28 ديسمبر-كانون الأول 2018 03:52 م
  

ثمة أشخاص غير عاديين بمواصفات خاصة، وسمات معينة؛ ترتبط أسماؤهم وأفعالهم بكل حيز جغرافي وفي كل زمن، فهم يشكلون توازناً كبيراً وتأثيراً أكبر من سواهم؛ مما يخلد مكانتهم ويزيد من قيمتهم لحظة رحيلهم الذي يشكل فراغاً شاسعاً لدى مجتمعاتهم، وتتضاعف المآزق والإشكالات التي كانت منعدمة وهم على قيد الحياة، وإن وجدت فهم دون غيرهم القادرون على زحزحتها بيسر وانتشالها بحنكة وفراسة منقطعة النظير، وهذه هبة وحظوة نادرتان لا يتسم بهما إلا شخصيات استثنائية يشكلون حالات فردية كنوابغ ومصادر إلهام ووئام.

وفي اليمن ذاع صيت اسم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في الأفق ولاح كنجم ساطع إبان ثورة 26 سبتمبر 1962م، واستمر لعقود كمناضل جسور ورجل توازنات وزعيم قبلي وقامة وطنية وسياسية لاسيما أنه ينتمي لأسرة كابدت الإمامة وهزت كيانها حتى انتصرت الجمهورية قيماً وشعارات، وكان اتصال الأسرة الوثيق بالجمهورية جسيماً وارتبط مصيرهما معاً دافعة الثمن الباهض إزاء هذا الخيار في الماضي والحاضر، وفي هذا المقام الذي يعاني فيه اليمن من بروز فئة سلالية تتوهم حقاً إلهياً في التسلط وتطمح بعودة التاريخ للوراء وطي عقود من سطوع شعاع الجمهورية والدولة، فيهب الكثيرون للذود عن هذه الحماقات واستبعاد سخافتها بتذكر وقراءة كل ما يتعلق بالجمهورية وقيمها والنضال المتصل بها والكفاح المستميت في سبيلها، فيقفز اسم الشيخ عبدالله الأحمر إلى الواجهة بثبات ورسوخ يبلغ العنان، ويملأ الصفحات في محطات مختلفة لما لهذا الاسم من باع طويل ومكانة سامقة بذل الكثير من الجهد والنضال جمهورياً وظل ردحاً من الزمن مصب تأثير وتوازن في بلد مليء بمتناقضات اجتماعية وسياسية، واستطاع أن يخضع شتات تلك المتناقضات للتعايش والتناغم ويزيل عنها غبار التصادم وبراثن الصراع، ويجعلها تسير بشكل شبه متناغم وبأطر توافقية الجذر متباينة على السطح بحاضن مشترك ونسيج اجتماعي متقارب رغم تغاير مرجعيتها الفكرية والسياسية والاجتماعية.

ونحن إذ نعاصر الذكرى الحادية عشرة لرحيل الشيخ الأحمر فيعاد النظر بحق هذه الشخصية من أكثر من ملمح ويتم تداولها بصورة أكثر دقة وإنصافاً، ينقب عن تاريخها ويتفحص مراحل عمرها، وقد تختلف وجهات النظر إزائها لكنها في الأخير لا تنكر تأثيرها ولا تقلل من مداها، ولعل الوصف الأنسب لمثل هذه النماذج أنها محيرة ومثيرة للإعجاب لما بحوزتها من ملكات خاصة تعجز أن تسميها لكن لا تقدر أن تخفي أثرها في الواقع وهذا هو حال اليمن وحكيمها الأخير الأحمر.

وليس هذا الاستغراب والاندهاش المصاحب لشخصية الأحمر نابعاً من فراغ أو عبث وإنما متعلقاً بالتعقيدات النابتة في بنية المجتمع اليمني نظاماً وشعباً وبالأخص أن رجلاً مراوغا ومتقلبا كـ"صالح" يترأس السلطة حيث لا يمكن أمن تقلباته وانثيالاته الشائكة التي أدار البلاد عبرها، لكن الأحمر كان في الغالب يصل معه إلى حل وتستمر الحكاية ويتماشى الوضع مستتباً دون تعثر رغم أن التأزمات الناشبة في عصر الرجلين لم تكن هينة، مع أن الثقل الاجتماعي والسياسي ليس بنفس النمط لهما وكل منهما يقف على النقيض من الآخر، وهذا يماثل تفرد الأحمر بتزعم اليمن قبلياً وترأس الحزب الكبير سياسياً دون أن يطغى جانب على آخر أو ينحاز لشأن على حساب غيره، حيث لديه ملكة الحدس والفطنة في إدراك الذي يجب والذي لا يجب، مستشعراً التعقيدات اليمنية والكيفية الخاصة لفكفكتها؛ لأن موقعه يكمن في آطر متناقضة كالقبيلة والسلطة، والقبيلة والحزبية، والنظام والمعارضة، ممارسة القبيلة والسياسة، وليس بمقدور شخص الثبات بين هذه المنزلقات المتهاوية كما فعلها الشيخ الأحمر مما يثبت بما لا يدع مجالاً للريب نباهته وحنكته الخاصة المقنعة فبقي يحتل الرقم الكبير في هذه الدوائر كلها حتى رحيله وينظر له الجميع بإجلال ومهابة ويخشى دهائه الكثيرون مما منحه قبولاً وحظوة لدى الغالبية الساحقة من اليمنيين ووسمه بالرجل الحكيم الذي خبر عن كثب اليمن تاريخاً وواقعاً حتى لا يكاد ينازعه أحد في هذه المرتبة.

 وكلما تقدم بنا الزمن وتضاعفت الإشكاليات من حوالينا ورأينا مواقفاً مخيفة يبديها أشخاص أو أطراف أو قبائل لم تكن لتخطر ببالنا من قبل وكلما صادفناها في الطريق يشرد تفكيرنا صوب الشيخ عبدالله الذي كان يجيد التعامل معها وينتزع منها الموقف الذي يريد مجرجراً إياها في المسلك القويم الذي يراه، وعلى عاتقه كانت تتهشم المواقف الصلبة ويتم ترويضها بلينونة وتتلاشى عقباتها، ومهما بَالَغْنا في التغني بقيم المدنية وزاد هوسنا بنظام دولة حقيقية وتناسينا الخصوصية المجتمعية وأنماطها المختلفة التي تناقض تلك الهواجس والطموحات نكون قد بعدنا عن فهم بوصلة هذا المجتمع والتي تشبث بها الشيخ الأحمر في علاقته بمجتمعه ووطنه حتى نال بذلك لقب زعيم مجتمعي ومفكر اجتماعي على سبيل ممارسة الفكر واقعاً بشكل متواشج ومتماه مع حيثيات جمة أكثر تعقيداً.

وفي منتهى هذه الأسطر، أدلف بالقول: إن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر ظاهرة اجتماعية خاصة وشخصية فذة محيرة ومؤثرة ومثار جدل واسع، واسم مرموق و كبير يقترن ذكره بذكر اليمن، وصفحة يمنية لا يمكن طيها أو تناسيها أبداً مهما تقادم الزمن أو تغيرت صور الوطن وتبدلت أحواله؛ رحمة تليق به وخلود مصاحب لاسمه وذكرى تعيده لدائرة الضوء وتزيح عنه غبار النسيان.