الثلاثاء 19-03-2024 07:14:17 ص : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

منظومة الأخلاق في القرآن.. نظريتها، مستندها، أنواعها، خصائصها، عقلانيتها، مكانتها، وظيفتها

الخميس 27 فبراير-شباط 2020 الساعة 08 مساءً / الاصلاح نت-خاص- عبد العزيز العسالي
 

  

مفرد "أخلاق" هل لها وجود في قواميس اللغة العربية؟ وإذا وجدنا مفرد "أخلاق" في قواميس اللغة العربية، فهل دلالتها تحمل المفهوم الشائع والمستعمل في كتب الحديث والتزكية والوعظ والثقافة؟

الحقيقة أنني وبعد بحث غير قليل، لم أجد في كتب اللغة مفرد "أخلاق" تحمل المعنى المفهومي للأخلاق المتعارف عليه، ووجدت دلالة مفرد "أخلاق" بعيدة جدا عن المفهوم الشائع.

ليس هناك أي علاقة بين تلك الدلالة القاموسية والمعنى المتعارف عليه للأخلاق، ويمكن العثور على علاقة ولكنها لا تخلو من تكلُّف سيفسد مفهوم الأخلاق.

ودفعاً لسوء الظن، سأقدم المعنى القاموسي لمفرد "أخلاق" لاعتبارين، الأول، دفعا لسوء ظن القارئ تجاهي فأقول: "أخلاق" بفتح أولها، تعني "تجميع رِقاع" واهية، أي بقايا قطع من ثياب واهية. و"أخلاق" تعني أيضا أحجارا صغيرة ملساء يتم تثبيتها بخيط في جهتي فم "الدِّلو" وهي القربة المصنوعة من الجلد لكي تساعد الدلو على الانغماس في الماء. (انظر: لسان العرب، ج 10، دار الفكر، ص 88 و89، مادة: خ ل ق، هذا المعنى موجود في بقية القواميس).

والاعتبار الثاني، هو تقديم تساؤل يقول: من أين جاء مفرد "أخلاق"؟ فالذين ألّفوا الكتب تحت مفرد "الأخلاق" إما ضمن كتب التزكية والتربية والوعظ، أو تحت ذات المفرد قديما كالمحدِّث الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق، أو الفيلسوف ابن مسكويه في كتابه "الأخلاق"، والذي كان بمثابة حركة تجديدية في الفلسفة الإسلامية في القرن الخامس، وتناولها أبو حامد الغزالي في كتابه الرائع المعروف بـ"إحياء علوم الدين".

العلامة الفقيه المفكر الفيلسوف السوري المعاصر د. عبد الرحمن الميداني، والذي قدم مجلدين كبيرين تحت ذات الاسم "الأخلاق الإسلامية"
وغيرهم وغيرهم الكثير، هكذا كتبوا.

وليس أخيرا، د. العلامة محمد عبد الله دراز، أطروحة دكتوراه من السربون عام 1947، وهي أكبر موسوعة بعنوان "دستور الأخلاق في القرآن".

العجيب أنه لم يُشِرْ ولا بكلمة حول مفرد أخلاق، ولا تجاه المفهوم، ولا التعريف، كما هو التقليد المتعارف عليه منهجيا، والأكثر غرابة أن المشرفين والمناقشين هم مستشرقون، وتناطحوا معه حول جزئيات وكليات، لكن لا كلام حول مفردة أخلاق.

بالمقابل وجدنا الشيخ محمد الغزالي قدم كتابا بعنوان "خُلُقُ المسلم"، ومع ذلك لم يناقش المصطلح. والشيخ سعيد أيوب قدم كتابا بعنوان "السلوك الاجتماعي في الإسلام".
   
ثانيا- "الخُلُقُ" استعمال قرآني:

"وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم". سورة ن، الآية 5.

هذا النص الوحيد الذي ورد في القرآن العظيم متضمنا مفرد "خُلُق". والخلق هنا معناه "السَّجِيّة والطبيعة المستقرة".

مفرد "خُلُقٌ" يحمل دلالة الجمع، على وزن "أسُس" و"أطُر"، وما يقوي هذا المعنى هو أن الله وصف نبيه بهذا الوصف، أي أنه صاحب خُلق متكامل شامل.

ثالثا- القيام بالقسط هو النظرية الخُلُقِيّةُ في القرآن:

أقول جازما، وبكل ثقة، إن القرآن قدم النظريه الخُلُقِيِّة في أوضح عبارة، وأبلغ دلالة، حيث قال: "ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط". سورة الحديد، الآية 25.

دلالة القسط هنا أكثر من دلالة العدل، حيث إن القسط يعني "العدل مع التواضع"، وهنا جمع بين غاية التشريع العامة والسلوك الخاص والعام.

وبما أن القسط هو غاية الرسل والشرائع السماوية، فلا شك أن مفهوم "القسط" يحمل نظريات أخرى.
   
رابعا- مستند الأخلاق:
     
الإيمان بالله واليوم الآخر هو "مستند الأخلاق"، واقترن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر في القرآن في أكثر من 34 موضعا، في حين ورد ذكر البعث واليوم الآخر في أكثر من 130 موطنا.

المكوِنات الوجدانية:

يتفرع عن مستند الإيمان بالله واليوم الآخر 10 أنواع من المكونات الوجدانية -فكرا وقلبا- متمثلة في: الخوف من الله، الخشوع، الخشية، الرجاء، الحب، الرغبة، الرهبة، الخضوع، الإنابة، التواضع، وهناك مكونات داخلة تحت هذه الـ10.

القرآن تحدث عن هذه المكونات الخُلقية القلبية في743 آية، وتحدث عن السلوك العملي "الخُلقي" أو الأخلاقي في 761 آية تقريبا. المجموع 1504 آيات، والعهدة هنا على الإمام أبي حامد الغزالي، رحمه الله، في كتابه "جوهر القرآن". 

إذا قمنا بتوزيع الآيات المتصلة بالأخلاق القلبية والسلوك العملي الظاهري على أوراق المصحف، سيكون المتوسط الحسابي أربع آيات في كل صفحة تقريبا، بالمقابل تحدث القرآن عن الوضوء في آية ونصف آية.

الخلاصة، "الخُلق" أو الأخلاق أخذ حيزا في المصحف قارب ربع القرآن.

خامسا- أنواع الأخلاق:

قلنا إن كلمة "خُلُق" تعني جمعا من الأخلاقيات، وهذا يعني أنها "شبكة" من المعتقدات والسلوك العملي تضمنت 22 نوعا، ذكرنا منها 10 أنواع تحت المحور الرابع آنفا.

المكونات السلوكية: الصبر، الحلم، العفو، التواضع، كظم الغيظ، الدفع بالتي هي أحسن، الرحمة، الرفق، العدل، الصدق، الإحسان، الأمانة.

الأخيران، الإحسان والأمانة، خلقان مركزيان، يمكننا القول بأنهما يستوعبان كل المكونات الآنفة، وما لم يُذكر.

الخلاصة، التقوى مفهوم مركزي، أوسع وأشمل، ينضوي تحته العقيدة والسلوك.

 سادسا- خصائص الأخلاق:

1- إنها مُثُلٌ عليا، أي مقدسة
وليست صادرة عن قوة أرضية زاجرة.

2- الإلزام: هذه الخصيصة هي فرع للخصيصة الأولى وملازمة لها في آن، أي هي "عقيدة دينية" تسوق حاملها نحو الخلق النبيل من داخله، فلا يحتاج قانون يراقبه.

3- الإخلاص: هذه الخصيصة هي إكسير - المادة الحافظة للخلق من الفساد، وإن شئت قل الإخلاص هو الملح الذي يضفي الذوق للطعام.

4- انتظار الجزاء من الله: هذه الخصيصة هي أساس الفاعلية في كل عمل دنيوي كان أو أخروي، "إنما نطعمكم لوجه الله".

أصحاب الفلسفة الوضعية المعاصرة، ليبراليين ويساريين، توصل بعضهم، وبعد جهد طويل، قائلا: "المثقف الحقيقي" هو الذي يعمل للصالح العام ولا ينتظر الجزاء، ولكن أين هو؟ وكيف الوصول إلى إقناعه؟ وبعد تعاريج ملتوية وكلام كثير قال ما معناه: "المُثُل العليا" يمكنها إيجاد هذا النوع من المثقفين.

قلت صدق الله القائل: "ولا يأتونك بمَثَلٍ إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا".

سابعا- عقلنة الخُلُق:

1- منظومة الخلق - الأخلاق في القرآن ليست أوامر دينية مجردة من العقلانية، بل إن القرآن أعطاها بُعداً عقلانيا يحمل عدَّة دلالاتٍ مركزية، وأبرز هذه الدلالات:

أ- أن العقل السليم فطريا سيعتنق الخُلق السليم ولو لم يصله التشريع الإلهي، إنها "فطرة الله".

ب- إقرار القرآن لاستدلال العقل السليم وجعله معيارا للتحاكم.

 ج- الدليل، قال تعالى: "أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون". سورة الطور، الآية 32.

ثامنا- مكانة الخُلُق التشريعية:

1- الخُلق الزاكي الرفيع ضارب في جذور أركان الإيمان بالله واليوم الآخر... إلخ. 
2- الخلق الزاكي المتين ملازم لمركزية التقوى.
3- النية الطيبة الخالصة، هي الموجهة للخُلق وتضفي عليه الفاعلية والدوام والرغبة... إلخ. الصفات الإدارية والإنسانية والحضارية.

4- الخُلق الذي يتجلى سلوكا عمليا إيجابيا، على المستوى الجماعي، يتحول إلى سنة من السنن الحاكمة للاجتماع سلاما واستقرارا وإنجازا ونهوضا ورفاهية، والعكس صحيح 100%.

5- هنا تتجلى مكانة "الخُلق" على المستوى القيمي، أي العقدي والسلوك العملي والسنن الحاكمة للاجتماع، وصدق الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت 
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا

الخلاصة، الأخلاق الصحيحة تتصل بأكبر القيم المركزية: العقيدة، التقوى، النية، السنن الحاكمة للاجتماع، الفهم السليم لمراد الله في تشريعاته، وهذا سيتجلى أكثر في المحور التالي.

تاسعا- الوظيفة التشريعية للأخلاق:

ذكرنا في الخلاصة الآنفة أن الالتزام الخلقي من أعظم العوامل المعينة على فهم مراد الله من تشريعاته، والدليل: "واتقوا الله ويعلمكم الله". "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا".

بما أننا وصلنا إلى أعلى درجات الفهم عن الله، بفضل الإيمان، والتقوى، والنية والخُلق، فإن هذه الصلة تثمر في الأذهان والنفوس والقلوب والوجدان والسلوك العملي أعظم وظيفة للأخلاق، أنها الإطار الضابط لمقاصد الشريعة.

وإذا أصبحت الأخلاق هي الإطار الناظم لمقاصد الشريعة، سيكون الفقيه قد عمل على ترسيخ جذور الخُلُق مع حقيقة الإيمان والنية والسنن، وأصبحت الأخلاق مهيمنة، وبالتالي لن تجد من يدعي أنهم أبناء الله، ولن تجد من يقول ليس علينا في الأميين سبيل، وأيضا لن تجد من يقول أنا من سلالة وعنصرية طاهرة، وأنا صاحب الحق الإلهي في التسيد الفرعوني.

كما لن تجد الفقيه متقلبا في فتاواه، والفقيه الذي يتعسف النصوص، أويتأولها بفجاجة، ولن يسلم عقله لظاهر الروايات على حساب المنهج ويحكم بنسبة من المال لفلان وعِلان، ولن يخترع الحيل التي من خلالها يستبيح المحرمات، فمثلا:

- لن يحصل زواج تحليل.
- لن يحصل زواج متعة.
- لن يحصل زواج مؤقت.
- لن تستباح الدماء المحرمة قطعيا برواية لم يعلمها أقرب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
- لن تجد دخيلا على الفقه يتقيأ، مجيزا لولي الأمر قتل ثلث الشعب.
- لن تجد دخيلا على الفقه يسقط حد قطع اليد على ناهب ثروات الشعب البالغة مليارات، وفي ذات الوقت يقول بقطع يد سارق الدينار.
- لن تجد حامل دكتوراه يتصرف تيها وكبرا على الطالب ويبدي سلوكا يتنافى والخلق العلمي.
- لن تسمع دعوى فجة تقول: لا أخلاق في البحث العلمي.

لو كان هناك أخلاق حقيقية عند أدعياء الديمقراطية وحقوق الطفل والإنسان، لن تسمع وزير خارجية دولة عظمى يقول إن بترول العراق أهم عندنا من وفاة مليون و500 ألف طفل دون غذاء.

أيضا لن نسمع بشيء اسمه سلاح جرثومي أو نووي، ولن نسمع بهيروشيما ولا ناجزاكي، ولن نسمع بسياسة المكيالين ضد شعب فلسطين المنكوب، ولن نسمع زعيم دولة القطب يقول لا يجوز تقديم سلاح لمواطني البوسنة أيام محنتهم، فحصول مواطني البوسنة على السلاح يتنافى والأخلاق، أسمعتم الأخلاق؟ كما لن نسمع بحربين كونيتين خلال أقل من 50 عاما تحصدان 120 مليون نسمة بين أبناء الدين والجغرافيا الواحدة.

المؤسف حقا أنه يوجد في موروثنا فقها وتربية وتزكية هراء يقول: الأخلاق لا علاقة لها بالإيمان.

الخلاصة، إذا وُجدت الأخلاق والتقوى حقا لاستقامت أمة الإسلام، ونهضت كما نهضت في ماضيها.

المستشرق غوستاف لوبون سجل شهادته للتاريخ قائلا: لم يعرف التاريخ كله أرحم من الفاتحين المسلمين كونهم أصحاب أخلاق.
 
أعظم منهج تشريعي حيوي هو منهج الفقه المقاصدي، كونه قادر على مواكبة مستجدات الواقع، ولكن هذا المنهج إذا لم يكن مؤطرا بالأخلاق المتينة المتجذرة في عمق العقيدة والتقوى والنية السليمة، فإنه سيتحول إلى هدم الشريعة، والنماذج الحداثية ماثلة ماسخة للنص، هادمة للتشريع، مميعة للعقل والثقافة والتاريخ والقيم.

خلاصة الخلاصة، غاية منظومة الأخلاق في القرآن هي إحلال السلام والأمن والرفاه، "ادخلوا في السلم كافة".

كلمات دالّة

#اليمن