الأحد 19-05-2024 09:34:07 ص : 11 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

ثقافة الإقلاع الحضاري.. الوعي بقيم التمكين-1 (الحلقة السادسة)

السبت 05 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 01 صباحاً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي
 


في الحلقات الخمس السابقة، وضحنا أن طريق ثقافة الإقلاع الحضاري يحتاج إلى الوعي بمجموعة من قيم الاستخلاف، وتحدثنا حولها في محورين: الأول، الكفر بالطاغوت المستبد. والثاني، وعي قيم الاستخلاف!

والآن سنتحدث حول المحور الثالث، وهو وعي قيم التمكين. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور 55).

تضمن النص دلالات عدة صريحة، والذي يهمنا هنا هو: الاستخلاف، والتمكين، فنقول: المغايرة بين اللفظين تقتضي اختلاف المعنى. أعني أن الاستخلاف له مدلول واسع، فكل إنسان يعمل في أي مجال من مجالات الحياة بطريقة مشروعة تنسجم مع القيم السليمة للمجتع يُعد خليفةً.

والتمكين، هو الهدف من استخلاف الإنسان في الأرض. بصيغة أخرى، التمكين هو "الاستقرار المجتمعي أمنا ورفاها".

مراتب التمكين:

التمكين مراتب ودرجات، هذه المراتب تستدعي المجتمع أن يعيها شروطا ويعيها مراحل. فما هي قيم التمكين التي يجب أن يعيها المجتمع جيدا؟

الجواب: وعي قيم التمكين تتمثل في المجالات التالية: الأول، إتقان الثقافة العلمية. والثاني، بناء الاتجاهات. والثالث، عشق ثقافة السلم.

أولا: ما المقصود بإتقان الثقافة العلمية؟

يتفق المفكرون في أقطار الأرض بمختلف تخصصاتهم على مفهومٍ مفاده "العلم منهج وليس موضوعا"، وهذا المفهوم يعني لفت انتباه المؤسسات القائمة على التعليم وأصحاب القرار إلى أهمية غرس وترسيخ ثقافة البحث العلمي في المؤسسات التعليمية، حتى تصبح ثقافة بدهية لدى غالبية المجتمع التوّاق إلى ثقافة الإقلاع الحضاري وصولا إلى التمكين، والعلم منهج يعني الرفض القاطع لحشو الأذهان بالمعلومات.

أما إتقان الثقافة العلمية، فتعني رفض أساليب التلقين العلمي إلا في حدود ضيقة جدا، وتعني رفض السطحية في التعليم المتمثل في الحفظ لمعلومات لا يعلم كيف جاءت ولم جاءت ومن أين؟ وتعني ترسيخ ثقافة التخصص العلمي.

وتعني احترام التخصص والسير في ركابه والتزامه كمنهج فكري عملي إجرائي في طريق النهوض، كما أنها تعني دقة البحث المعمق في تخصصات جزئية دقيقة بشرط أن تكون وفق المنهج العلمي الرصين المتعارف عليه عند أهل التخصص.

مثال تقريبي لأسلوب التلقين: يمكن للأخ القارئ أن يفترض أو يتخيل معنا أنه لقي شخصا جسمه متسق الخِلقةِ، عدا يد أو قدم أو إصبع من أصابع يد هذا الشخص، أو قدمه متضخمة بصورة ملفتة للنظر، فالقارئ أو أي شخص شاهد هذه الحالة سيحكم بلا أدنى تردد أن هذا التضخم هو مرض، أو تشوه طرأ على تلك اليد أو القدم أو الإصبع.

وعليه، لن نكون مبالغين إذا أسقطنا هذه الحالة على التعليم التلقيني في الوطن العربي عموما واليمن بصورة خاصة.

فكم هي الشهادات؟ وكم هي أعداد الخريجين سنويا في كل مستويات التعليم؟ لكن ما نسبة الثقافة العلمية؟ إنه تشوه يشبه ذلك العضو مع فارق في الآثار والنتائج، ذلك أن خطورة تشوه إصبع أو قدم أو يد، إما أنه قد يجد له علاجا يستأصله، أو قد يعيش حامل العضو عيشا طبيعيا إلى أن يموت، غير أن ضرره لن يتعدى إلى الغير، بخلاف التعليم التلقيني، فهو يعني إفساد للمجتمع في كل مجالات حياته.

ونحن هنا نتحدث عن تلقين التعليم الذي كان حاصلا قبل عشرين عاما وزيادة، ذلك أن الفترة من عام 1997 وما بعدها، لا شك أن الكثير يدركون حجم الإفساد المنظم والممنهج للعملية التعليمية خلالها، إفساد كرّسته يد المستبد المفسد المهلك للحرث والنسل.

وحسب معلومات وردت أيام حركة هيئة تدريس إحدى الجامعات وكذا معلمي الجمهورية، فقد صرح الطاغوت عند إعداد موازنة الحكومة يومها قائلا: كم هي موازنة التربية والتعليم؟ قيل له: 270 مليارا، فقال: انفخوا بها الصور.. كلوها.. لا أريد تعليما. وأضاف قائلا: حفنة دكاترة طلعوا لي الضغط.. لا أريد تعليما.

البعض حاول أن يلتمس عذرا للمفسد بأنه كان ثملا، ومراقبون رفضوا التبرير مؤكدين أن حقد المفسد ضد الشعب هو هو في حالة صحوه وسكره. نعم، التصريح المفسد جاء بعد تسع سنوات من الحملة المدمرة للتعليم.

وعلى إثر هذا التصريح، تحركت شخصيات حركتها ضمائرها المسؤولة رافضة إفساد العملية التعليمية، فتحركت لدى الجهات القائمة على التعليم، داعية إلى إقامة مؤتمر تخصصي يقوم بعملية استبيان علمي حول ظاهرة الغش (الأسباب والعوامل).

طبعا هذه الفكرة لاقت اعتراضا رسميا وبكل قوة في محافظة تعز والحكومة بالعاصمة صنعاء، وبعد عراك تم تعديل العنوان من ظاهرة الغش إلى "الاختلالات" المصاحبة للعملية التعليمية.

باختصار، جاءت النتيجة مفزعة موضحة أن 92.7% من الأسباب الرئيسية وراء الغش أنه إفساد ممنهج صادر عن أعضاء حزب الحاكم في البرلمان، ومدراء عموم المديريات، وأعضاء المجالس المحلية، ورؤساء فروع حزب الحاكم.

بل قبل هذا كانت يد الإفساد قد اغتالت مدرسين مراقبين في مراكز الاختبارات، ووصل الإجرام الوقح إلى منع المحاكم والنيابات من محاكمة القتلة طيلة عقد ونصف، وتم إطلاق القتلة من مخابرات الحاكم ولكن بغلاف المليشيات بعد انقلاب 21 سبتمبر 2014.

إن كارثة الإفساد الممنهج للتعليم صعب تناولها بأكثر من هذا في مقامنا، وإنما تحتاج مشروعا يشبه مشروع مارشال لإنقاذ ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.

ثانيا: العناية بالبحث العلمي

سنأخذ هنا فقط عينة قسم الصيدلة بشقيه القادمين من الخارج أو الخريجين من جامعات الداخل، سنجدهم إما أصحاب صيدليات، أو مندوبي توزيع أدوية لشركات أجنبية.

ولو سألتهم: أين هي بحوثكم العلمية؟ يأتي الجواب إما ساخرا وهو الأعم، وإما متحسرا معللا تحسره بالقول: من الذي سيدعمنا ماليا؟ علما بأن كثيرا منهم لديهم إمكانات مالية، لكنه اللهاث وراء الربح السريع.

بل إن بعض طلاب الصيدلة قالوا لي حرفيا: نريد شهادة فقط سنروح نورد شرنقات.. صفقتان كفيلتان بتكوين رصيد بنكي عالٍ.

وإذا سألنا القطاع الخاص سنجده في غيبوبة تامة عن هذا الجانب، علما بأن القطاع الخاص في الغرب والشرق يتحمل الدور الأبرز في جانب البحث العلمي في كل مجالات الحياة، بخلاف الواقع العربي سلطة وتجارا يعيشون غيبوبة مصطنعة أو حقيقية، والسبب هو غياب الثقافة العلمية من رأس الدولة وهلم جرا.

قفشة مضحكة:

مضحكة لكنها تعكس حالة الثقافة العلمية في اليمن في رأس هرم السلطة. القفشة هي أن رأس الفساد حضر حفل تخرج، وتم تكريم المعيدين، ثم ألقى كلمة قال فيها: نبارك للناجحين ونتمنى للمعيدين النجاح في العام القادم.

نترك التعليق للقارئ ليسرح بمخيلته حتى يقترب من مصدر حقيقة الكارثة التي "طوحت" بشعب 25 مليونا وفيه النوابغ والمتميزين والموهوبين والعباقرة... إلخ.

الخلاصة:

حصادنا في جانب الصيدلة، تحول الشعار من "أخي المواطن العلاج خدمة"، إلى "أخي المواطن أنت الصيد الثمين". وهكذا في جانب القضاء والاقتصاد والزراعة... إلخ.

ثالثا: كيف تتحقق الثقافة العلمية؟

حتى تتحقق الثقافة العلمية يجب الوقوف بحزم لا يلين أمام القضايا التالية:

1- منع الانتساب أو ما يسمى التعليم عن بعد في المدارس والجامعات الرسمية والتجارية والمعاهد المهنية ومعاهد التأهيل التربوي.

2- العناية بالريف وذلك من خلال معاهد مهنية وحرفية وفق دراسة مسحية علمية تلبي حاجة كل منطقة، ذلك أن أغلب الطلاب من الجنسين في الريف لا سيما العنصر النسائي انكمشت عقلياتهم بل أعطبت بعد الثانوية.

إن الدراسات تقول إن الريف يمثل 70% من السكان. إذن يستحيل الوصول إلى ثقافة إقلاع حضاري وهذا الرقم المجتمعي مهمل وضائع؟

عن أي استخلاف وعن أي تمكين نتحدث، ونسبة 55/ 60 من حملة الثانوية لم يصلوا إلى التعليم الجامعي؟

3ــ العناية بالتعليم التطبيقي، وهذه هي الصورة العملية لإتقان وترسيخ الثقافة العلمية. لا بد من إجراء صارم في هذا الصدد، ورفض أي نتيجة للخريجين إلا بتطبيق عملي بحثي وفق المنهجية العلمية.

4- برنامج مصاحب لتحفيظ القرآن، يتضمن وبطريقة مرحلية تفسيرا للقرآن من زاوية سنن الاجتماع وقيام الحضارات وسقوطها، ويترك التفسير المتعارف عليه للطالب يدرسه بنفسه، ويختبر بالتفسير العام كجانب نظري، لكن لا يعتمد تخرج حافظ القرآن إلا ببحث علمي مصغر في مجال سنن الاجتماع والحضارات نهوضا وانهيارا.

5- إلزام طلاب الشريعة والقانون وطلاب كليات التربية وطلاب قسم الاجتماع وأقسام العلوم السياسية، ببحث قضايا المرأة والتعليم والشرعية السياسية في المجتمعات الفقيرة من أين تبدأ وكيف؟ وأسباب غياب التعاون، وأسباب الطلاق، كل في منطقته، وكذا قضايا الثأر، إلى غير ذلك من القضايا في التخصصات الأخرى، من خلال بحوث علمية محكّمة وكذا الاستبيانات تكون محكمةً أيضا.

رابعا: العناية بالثقافة العلمية المنهجية في مجال العلوم الشرعية

هذا المجال للأسف صار أشبه بالباب المخلوع، مفتوحا لمن هب ودب من السخفاء والمغفلين والبلداء والكسالى والأدعياء والدخلاء والفاشلين والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، الأمر الذي انعكس على واقع الأمة تزمتا وتشددا وتطرفا، لأن الجاهل بالثقافة العلمية والمنهج العلمي يعيش سطحية قاتلة وهو يظن أنه يسلك أصح الطرق دينا وشرعا وثقافة.

هناك عدد عكفوا في بيوتهم وقرؤوا كتبا ذات لون واحد، وبرزوا في أوساط المجتمع يطلقون الفتاوى "الملفلفة" من أشرطة الكاسيت... إلخ، وهنا فوجئ المجتمع بموجات التشدد، كون المجتمع يحب المفتي الشديد في دين الله.

أتصدق أيها القارئ العزيز أن الأمر وصل إلى حد تساؤل هؤلاء قائلين: ما هو قصدكم بالمنهج العلمي؟ هل تريدون أن نقول إن العقيدة تخضع للمنهج العلمي فيناقشها فإن وافقت المنهج قبلت والعكس؟

أخي القارئ تأمل بربك كم تحت هذا التساؤل من جهالات؟ وبالتالي إلى أين سيقود المجتمع؟ ليت الأمر وقف ها هنا، لا، بل فوجئ المهتمون باعتلاء هذه النوعية منصات صناعة العقول في الجامعات.

خامسا: المدارس التحضيرية

هذه إحدى الطرق الهامة كشرط إجرائي تأهيلي في طريق ترسيخ الثقافة العلمية.

خريج الثانوية يقضي عاما كاملا منتظرا كي يدخل الجامعة، لكنه في بداية العام الجامعي يحتار متسائلا: أي مجال أنسب وأصلح لأدرس فيه؟ فيشطح به الطموح صوب تخصصات يراها ذات مستقبل، وإذا لم يحالفه القبول فالنتيجة ارتماء دون وعي في أي تخصص غير راغب فيه. ترى أي إبداع ينتظره؟ أية ثقافة علمية سيكتسبها عن حب؟

إذن، الحل في إيجاد مدارس تحضيرية يدخلها حملة الثانوية وجوبا طيلة عام كامل يتعرف حملة الثانوية على مختلف العلوم، وهنا قطعا سيجد الطالب ضالته وسيتقدم إلى التخصص بحب ورغبة وصولا إلى إتقان الثقافة العلمية ثم الإبداع. نعم.. لا يُقبل الطالب في الجامعة إلا بشهادة تحضيرية، وضرورة مقابلة الطالب في المجال الذي اختاره كتخصص مفضل لديه.