الجمعة 03-05-2024 02:16:57 ص : 24 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

مقاصد الوحي بناء مجتمع المعرفة.. (الحلقة الرابعة: نحو دولة ومجتمع الخير المشترك)

السبت 02 مارس - آذار 2024 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص - عبد العزيز العسالي

 

  

المحور الأول، مقاصد الوحي وإقامة التمدن:

أولا، الإسلام بطبيعته نظام مؤسسي - تصورا، وقيما، وتشريعا، وسنن اجتماع. وقد تحدثنا في مناسبات مختلفة حول مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم المنهجية - تحويل القيم إلى آليات مؤسسية واضحة الأبعاد والمقاصد والأهداف الدالة أن الإسلام نظام أمة، وأن الطريق إلى تجسيد مقاصد الوحي هو قيام مجتمع المعرفة، الأمر الذي يعطينا دلالة قاطعة على حضور مقاصد الوحي في الوعي المسلم - الصحابة ومن بعدهم، وأن مقاصد الوحي قد نفخت روحي الوعي المؤسسي والتمدن بكل انسياب وسهولة ببركة التربية النبوية المتمثلة في تحويل القيم إلى آليات ذات فاعلية جبارة خلال التاريخ الإسلامي، كما سنوضح في البند التالي.

 

ثانيا، الخصائص المؤسسية في الإسلام:

لا شك أن كلا من مؤسسة الأسرة والقبيلة والعشيرة كانت موجودة قبل الإسلام، لكن تعاليم الإسلام ممثلة بمقاصد الوحي أضفت خصائص ومميزات على نظام مؤسسات المجتمع المسلم، وإليكم أبرزها:

1 - أساس التقوى ربطها بعقيدة التوحيد: "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله خير أمّن أسس بنيانه على شفا جرف هار".. هذا التأسيس حاضر مع كل مقاصد الوحي - مثال مؤسسة الشورى.. قال تعالى: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون".

إذن، مؤسسة الشورى مؤطرة بالعقيدة ومنظومة من مقاصد الوحي وفي مقدمتها الانتصار من بغي الطغيان كما نص القرآن عقب آية الشورى فورا: "والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون".. هكذا هي مقاصد القرآن متصلة ببعضها لا انفصال بينها.

2‐ المبدئية فوق العصبية القبلية، والآبائية، والعشيرة، وهذا البعد المبدئي وعاه الصحابة عند بيعة العقبة الثانية، فقد صرحوا قائلين لا قتال - عصبية بعد اليوم.

3 - إضفاء الشرعية على العقود عموما مع التأكيد على الأمر القرآني بالتزام العرف السليم، وربط كل ذلك بمقاصد سنن الاجتماع كما سيأتي.

الجدير ذكره أن الجذر اللغوي لمفردتي المؤسسة والنقابة ورد في القرآن: "أفمن أسس بنيانه".. و"اثني عشر نقيبا".

4 - تحرير القيم وإعلاؤها إلى مرتبة القدسية، والمقصد العام من كل ما سبق هو تحقيق المصالح العامة وحمايتها أخلاقيا أولا، وتشريعيا ثانيا، وفي مقدمتها حماية كرامة وحرية وحقوق الفرد والمجموع. ومن جهة ثانية يؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم على تحويل القيم إلى آليات مؤسسية قائلا: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز".. ويقول صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".

 

ثالثا، إزالة نوابت السوء الفكرية:

هناك جوانب مشرقة في موروثنا الفكري والثقافي وأبرزها في مجال تنظيم مؤسسات المجتمع، ويحضرني الآن قرابة 31 مؤسسة سأشير إلى بعضها خشية الإطالة - مؤسسة الجيش أوجدها الفاروق رضي الله عنه.. فقد جعلها مؤسسة تكافلية - تفتيت الكوارث - قتل الخطأ في وسط الجيش وما شابه ذلك.

أيضا، مؤسسة الوقف.. فقد حملت على عاتقها جل وظائف الدولة - خدمة المجتمع طوال التاريخ الإسلامي حتى مطلع القرن العشرين الميلادي، وانحصرت وظيفة الدولة في أربع وزارات لا غير - الجيش، القضاء، الخراج، الأمن.

توسعت مؤسسات المجتمع خلال القرن الهجري الأول فصاعدا - نقابات مهنية وحرفية كثيرة منها: نقابة الفراشين، الوراقين - نساخي الكتب - ونقابة النجارين، والحسبة، والمظالم، ومؤسسة كفالة وحماية النساء الغاضبات - ممن ليس لهن أسرة تحميهن أعدت قصور خاصة بهن ممولة بالغذاء والكساء... إلخ. حتى يبت القضاء بمشكلتها - الدولة الرسولية نموذجا، وغيرها من العصور. أيضا مؤسسة رعاية الخيول الهزيلة - ليس هناك قتل لها وإنما رعايتها حتى الموت.

وإليكم فتوى لأبي حنيفة رحمه الله عن شخص ماهر ختن طفلا فقطع حشفته ومات فهل عليه دية؟ أجاب: عاقلته تدفع ثلثي دية تقسيط.. قالوا: لا عاقلة له.. قال: أبناء مهنته يتضامنون معه.

باختصار، الحق يقال إن المجتمع المسلم وعى بجدارة مقاصد الوحي ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولنا عودة عند مقاصد المؤسسية.

غير أن نوابت السوء رانت على التفكير، وقد ساعدتها عوامل عدة أخطرها غياب المنهج المقاصدي، فحضر التقليد المذهبي وأصبحت قراءة القرآن للتبرك وكذا السيرة تقرأ في المولد إلى عند شق صدر الرسول فقط وكفى.

وعليه، نريد إزالة نوابت السوء الخطيرة والمدمرة، أخطرها مطلقا "عقيدة الجبر".. والحق أنها برزت مبكرا في العصر العباسي فحرست الطغيان عقديا بل ودمرت مقاصد الوحي واهتزت آليات المؤسسية فأضاعت عقيدة التوحيد السببي - مجال نظام حماية المجتمع، غير أن أسوأ وضع يعيشه المجتمع المسلم خلال القرن العشرين إلى اللحظة حيث تغولت سلطات الطغيان وقضت على مؤسسات المجتمع واستبدلتها بأخطبوط العلمنة الفاسدة المفسدة فذُبِح المجتمع المدني، فاتجهت النخبة إلى منظمات الغرب متسولة الفكرة والتمويل، وهنا تم استرقاق القيم - امتهان القيم والعبث بها من النخبة والسلطة، غير أن الأسوأ هو الجبرية التي يكرسها العقل المحافظ الوصي على الدين فكرس عبادة الطغيان باسم الدين، وعليه يجب ضرورة تحرير عقلية المجتمع عموما من هذه النابتة الكارثية وغيرها.

 

رابعا، مقاصد المؤسسية في الإسلام:

أولا، نذكر القارئ أن أعظم خصائص المؤسسية في الإسلام أنها ذات قدسية تشريعية معصومة المصدر، وبالتالي يجب توعية المجتمع بهذه الخصيصة العليا.

ثانيا، مقاصد المؤسسية:

1 - تفعيل مقاصد الوحي.

2 - بناء مجتمع المعرفة.

3 - إقامة التمدن الإسلامي.

4 - حماية نظام الأمة.

5 - تنظيم المجتمع.

6 - تحقيق العدل.

7 - إرساء معايير التوازن الاجتماعي.

8 - تفعيل فاعلية الرقابة الشعبية.

9 - التكافل الاجتماعي.

10 - حماية قيم المجتمع ومصالحه دينا ودنيا.

11- حماية الضعفاء - النساء الغاضبات - نموذجا.

12- رفع المظالم عن الإداريين.

13 - تفتيت الكوارث.

14 - تنفيذ شورية البيعة عبر رؤساء النقابات الذين يبايعون أعضاء النقابة ثم يذهبون لمبايعة الخليفة ولو شكليا، لكن تمسُّح الخلفاء هنا يعطينا حضورا مؤسسيا.

15 - منع الغش.

16 - فرض التسعير ومنع الاحتكار عند اللزوم.

17 - رفع ظلم الفجار من ملاك الأرقاء.

18 - حماية حرية وكرامة المجتمع.

19- الرفق بالحيوان.

20 - ترسيخ شبكة العلاقات الاجتماعية - قوة وحدة المجتمع.

باختصار، كانت عقيدة الجبر محصورة بالبلاط ويستحون أن يفرضوها بقوة على المجتمع، لكن تم تسريبها بهدوء والحصاد ملموس - واضح للعيان، والسبب هو غياب دور المجتمع عن صناعة السياسات العامة - الخير العام المشترك.. يجب توعية المجتمع كيف يفهم القدر، وأن القرآن ربط حياة المجتمع بتغيير ما في الأنفس سلبا وإيجابا، وأن القرآن وسنة الرسول لا يختلفان أبدا، ويجب توعية المجتمع بمفهوم رأس المال الاجتماعي، وهو موضوع المحور التالي.

 

المحور الثاني، رأس المال الاجتماعي:

رأس المال الاجتماعي هو الوعي بالسنن والسياسات العامة ومقاصدها وثمارها وخطورة جهل المجتمع بها، وهذه معالم رأس المال الاجتماعي: شريعة الإسلام ربانية المصدر إنسانية الغايات والتطبيق، وأن الطريق إلى مجتمع المعرفة تتحقق بالقراءتين - قراءة الكتاب المسطور وقراءة الكون المنظور - السنن الحاكمة للنفس والاجتماع.

إن تحقيق السياسات العامة والخير العام المشترك يقوم عبر الحوار القيمي داخل مؤسسات الشورى، وأن كثيرا من المصالح أساسها سلامة فطرة المجتمع المسلم، وأن مؤسسة الشورى هي الآلية الدفاعية الأولى وسط منظومة من مقاصد الوحي والقيم الخلقية، والسنن الحاكمة للاجتماع، وأن مؤسسة الشورى هي الوسيلة الأقوى في قصقصة مخالب الطغيان، وأن السياسات العامة هي المعايير العليا للحوكمة بين المجتمع والسلطات، وأن مقاصد الوحي أرست مؤسسة التخصص العلمي المتمرس المتسلح بالخبرات.. في قضايا الخوف والأمن الاجتماعيين: "وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم".. وأن الحاكم هو واحد من أولي الأمر.. وأن مقاصد الوحي قررت أن الخلاف حاصل بين المجتمع وبين مؤسسة "أولي الأمر - المستنبطين".. وأن القرآن قرر عند التنازع العودة إلى الله والرسول - مقاصد الوحي، وتصرفات الرسول، ووعي المجتمع بأن الوسائل تتجدد حسب المتغيرات في ميدان الحياة، وأن يعي مسبقا بثمار الوعي برأس المال الاجتماعي وأبرزها لا تهميش لأحد - الفرد والمجموع، ولا اغتراب ثقافي ولا تسول من الغير، ولا تطرف.

وهنا تعزز هوية المجتمع وثقته بذاته، وأن يعي أن كل هذا وغيره مضمون التحقيق لأنه نظام رباني وأنه عقيدة المجتمع، وكفى به ضمانا لتحقيق الخير المشترك، وأن كل السياسات محورها حماية الضرورات الست: حماية الدين، النفس، العرض، المال، العقل، الحرية، وإعادة الاعتبار للعقلانية المؤمنة المؤطرة بمقاصد الوحي، وأن تحديد صلاحيات السلطة هو حق للمجتمع، فكما أن المجتمع هو مصدر السلطة فمن حقه تحديد صلاحيات السلطة وتحديد الفترة الزمنية للحاكم، وكذلك صلاحية الحاكم في المال العام، وأن شروط تحقيق الحياة الطيبة تبدأ من رقعة جغرافية مستقلة، ومجتمع واع، منظم، منفتح، وأن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت آيات الحق والعدل وقامت عليه أدلة العقل وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره. (ابن القيم، إعلام الموقعين، 4، ص 284).

الوعي بأهمية وجود مرجعية سيادية وأهمية حمايتها وتجريم ومحاكمة من يخالفها، وعي سنن الاجتماع ودورها المؤسسي الكابح لتغول الطغيان.. أهمية الأخلاق وتحقيق مقاصدها.. الرشد في مجال الاستهلاك.. دور المؤسسية في توجيه الاقتصاد: "كي لا يكون دولة".. الوعي بمقاصد مؤسسة الزكاة والوقف، ودورهما في بناء المجتمع.

 

المحور الرابع، محو الأمية الثقافية - وسيلتها الأقوى:

أولا، اقتباس وسيلة أثبتت فاعليتها جدا جدا، وتتمثل الوسيلة في برنامج ميسّر مجرب تم تنفيذها في دولة الأرجنتين قام بها د. باولو فيري.. واللافت للنظر أن البرنامج مجموع كلماته 17 كلمة فقط.. كلمات عادية بسيطة يردها المجتمع فجعلها برنامج محو الأمية الثقافية فأثبتت نجاحا غير عادي، بل خلقت مجتمعا سياسيا محنكا، وقد بدأ التنفيذ مع شخص واحد ثم ثلاثة ثم ستة ثم انتشرت العملية فهرع إليها الغالبية من الجنسين، وأثبت رواد برنامج مكافحة الأمية الثقافية وعيا عاليا بالقضايا الكبرى حيث أنشؤوا المؤسسات والنقابات وضغطوا على السلطات وتحققت مكاسب مجتمعية في كل اتجاه، نماذج لمفردات البرنامج - تنمية، حرية، حقوق، ثقافة، إنتاج، مضخة.. وهكذا، فكان المدرسون يكتبون الكلمة على السبورة ثم يشرحون أصل الكلمة وعلاقاتها وأبعادها وأهميتها ووسائل تحقيقها، وفوائدها، ومعوقاتها داخليا وخارجيا، ثم يفتحون المجال للنقاش بين رواد البرنامج، والنتيجة نجاح غير متوقع.

الجدير ذكره أن البرنامج دعمته الأمم المتحدة ثم تبنته دول أمريكا اللاتينية، وقد حقق نجاحات في محاصرة التغول الرأسمالي إلى حد كبير.

 

ثانيا، برنامجنا المنشود - بناء الاتجاهات الثقافية:

لو تأملنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم سنجد أنها كانت بناء اتجاهات من خلال تعليم الكبار في مكة والمدينة ولكن في المدينة، وعندما تأملت طويلا في السيرة النبوية وفي القرآن، استخرجت 40 مفردة متكاملة الدلالات يمكن تنفيذها في مكافحة الأمية الثقافية من خلال المنبر المسجدي أو غيره، ابتداء من: اقرأ، قيم، سنن، ركون، حوار، طائفة، استخف، إحسان، طاغوت، وهكذا.. على أن يتم تدريب الخطيب والمدرس بأبعاد الكلمة... إلخ.

لا شك أن هذا المحتوى سيحدث أثرا غير عادي سيما عبر التواصل الاجتماعي.

بهذا القدر أكتفي على اللقاء مع موضوع قوانين التغيير في القرآن ودلالاته التنموية.*

 

إلى اللقاء بعونه سبحانه.

 

................

 

* هامش:

القانون القرآني الخالد رسم قوانين التغيير في سبيل إقامة مجتمع المعرفة أنه قانون "تغيير ما في الأنفس" سلبا وإيجابا، علما أن هذا القانون التغييري متصل دلاليا بمفهوم التنمية، وقد نظرت طويلا فوجدت عددا من المؤشرات تتضمن معالم نظرية متكاملة، وإذا أمد الله بالعمر سنخرجها في حلقات بعونه سبحانه.

كلمات دالّة

#اليمن