الخميس 02-05-2024 15:54:15 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

منظومة الهوية ومقاصدها دينيا ووطنيا (الحلقة الثانية: الهوية بين الانفتاح والانغلاق)

السبت 13 يناير-كانون الثاني 2024 الساعة 10 صباحاً / الإصلاح نت-خاص | عبد العزيز العسالي

 

مقدمة:

الكتابات حول الهوية كثيرة، وقد تداخلت تقسيمات الهوية - أسس محورية وفرعية، واتسعت التوصيفات، ذلك أن الهوية متصلة بالعقيدة والفكر والثقافة والاقتصاد والتعليم والاجتماع... إلخ.

وبالتالي تعددت زوايا الرؤية لدى الكتاب، فاتسع التناول. وبما أن هدفنا هو التأصيل المقاصدي لمنظومة الهوية، فالتأصيل يعني عملا منهجيا، وكما يقرر فلاسفة المنهج أن من شروط العمل المنهجي أن تكون قو اعده الأساسية قليلة جدا (محورية). ولا مانع بعد ذلك أن تتسع التفريعات المنبثقة عن الأسس. وانطلاقا مما سبق قمنا بتقسيم منظومة الهوية إلى نوعين مركزيين: النوع الأول، الهوية المنفتحة. والنوع الثاني، الهوية المنغلقة.

 

النوع الأول، الهوية المنفتحة:

إذا نظرنا في معارف الوحي (مقاصد القرآن)، ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم (سيرته العملية العطرة)، وكذلك التاريخ الإسلامي، بدءا من عهد الخلفاء الراشدين وعبر التاريخ الإسلامي، نجد أن الإسلام صنع هوية منفتحة بصورة غير مسبوقة في تاريخ الحضارات بشهادة مؤرخين غير مسلمين، والأدلة كثيرة، لكني سأقتصر على موطن الشاهد فقط كما يلي:

أولا، معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج بهدف الحصول على رقعة جغرافية يقيم فيها مع أصحابه في أمن واستقرار، كون الرقعة الجغرافية هي إحدى الأسس المكونة للهوية بلا خلاف.

وقد جاءت الهجرة النبوية إلى المدينة، وحسب الفيلسوف المسلم النمساوي القائل: كانت الأهداف واضحة شاخصة جدا في ذهنية الصحابة، فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم من لحظاته الأولى ببناء المجتمع الإسلامي الجديد على أسس إنسانية وحضارية غير مسبوقة في تاريخ الجزيرة العربية التي لم تعلم بشيء اسمه دستور.

 

ثانيا، تنوع وتراكم هويات:

مكونات المجتمع المدني الجديد تتمثل في شريحة المهاجرين وشريحتي الأنصار (الأوس والخزرج)، وشريحة مشركين، كما نصت الفقرة (ب) من المادة (20) من دستور المدينة "وألا يجير مشرك عيرا لقريش".. شرائح - بطون من اليهود بلغت 12 بطنا نص عليها دستور المدينة.

وهنا يتجلى بوضوح انفتاح الهوية الإسلامية على الهويات الأخرى، وهي هويات متراكمة ومركبة بدليل تنصيص دستور المدينة اعترافا لكل بطن بحقوقها الثقافية عرفا أو طريقة تديّن قد تصل حد المذهبية الضيقة، فذاك شأن خاص محترم في ظل المبدأ الإسلامي العالمي الإنساني الحضاري العام "لتعارفوا".

وهذا نموذج مادة من دستور المدينة: "بنو عوف أمة من يهود على ربعتهم هم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويفكون عانيهم"... إلخ. وهكذا نصت مواد الدستور لكل بطن أو شريحة.

 

ثالثا، شهادة مستشرق حاقد:

المستشرق البريطاني مونتجمري، قائد الجيش البريطاني في حرب هتلر، معروف بحقده على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه في كتابه "ما هو الإسلام" قال كلاما خلاصته إن النفسية اليهودية معروفة بالحقد تجاه محمد، ولكن ما الذي جعل اليهود يقبلون بوثيقة محمد (دستور المدينة) الذي نص في آخر مادة على أن يكون المرجعية عند الاختلاف هو "محمد"؟ لا شك أن محمدا منح اليهود أن يكتبوا حقوقهم ومصالحهم في إطار مبدأ السلام وكفى بهذا ثقة، فوافق اليهود على المرجعية.

قد نتفق أو نختلف حول كلام الرجل، لكن المحصلة النهائية واضحة أن الهوية الإسلامية منفتحة تجاه الآخر أيا كان.

 

رابعا، العهد الراشدي:

كثيرة هي القصص الدالة على حماية حقوق غير المسلمين، فقد كانت الدعاوى تطال شخص الخليفة نفسه، الفاروق رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب وقصة درعه مع النصراني من الشهرة بمكان.

لكنني سأشير إلى شواهد هامة على انفتاح الهوية الإسلامية من جهة، وتنمية الهوية من جهة ثانية.. وإليك الشواهد التالية:

بناء وعي المجتمع:

المقصود هو توعية المجتمع بما له من حقوق وما عليه من واجبات في ظل دولة الإسلام، ذلك أن موضوع بناء منظومة الهوية هو إحدى السنن الحاكمة للاجتماع - صناعة السلم والسلام والاستقرار والتنمية وقوة الدولة والمجتمع في آن.

لقد قرر الفاروق، بعد معركتي اليرموك والقادسية، إيقاف الفتوحات، حيث اتجه بنفسه لعقد مؤتمر في الجابية -إحدى ضواحي دمشق- وجمع القادة وطرح فكرة توقف الفتوحات بهدف بناء وعي المجتمع الإسلامي عموما لكي يضمن عدة أمور، أبرزها بناء وعي تعاليم الإسلام لدى المسلمين الجدد تجاه الدين، وتجاه الدولة، وتجاه غير المسلم، وهذا الأخير شريحة واسعة جدا. باختصار، توصل القرار إلى وقف الفتوحات من خمس إلى عشر سنين، وشدد على الالتزام إلى حد أن عمرو بن العاص استأذنه بفتح مصر وأقنع الفاروق بأهمية ذلك وقدم له خارطة حدد فيها أن جوانب أمن دمشق والشام عموما لن يكون إلا بفتح مصر.

انفتاح وعدل يصنع الهوية:

قرر الفاروق بعد مؤتمر الجابية بقاء أرض العراق بيد الفلاحين الأنباط مقابل نسبة اسمها خراج للدولة، موضحا ومعززا فكرة انفتاح دولة الإسلام أنها عقيدة وقيم ومبادئ إسلامية، قائلا لهم: "الأرض ملككم"، على أن تدفعوا كذا للدولة، واعلموا أن حقوقكم في امتلاك الأرض لن تتغير سواء دخلتم الإسلام أو بقيتم على ديانتكم.

والنتيجة كانت مذهلة بشهادة غير مسلمين - فوكوياما نموذجا، والذي نص قائلا: لقد نقل محمد واقع المجتمعات التي ما كانت تفكر يوما بالوصول إلى مهنة قريبة من قصر الحكم ناهيك عن غيره، مؤكدا حرفيا "الأنباط وصلوا إلى البلاط - علماء، وزراء، تجار، قادة جيش، مقربين من الخلفاء إلى الحد أن اسم الخليفة صار رمزيا".

باختصار، قرار الفاروق بشأن الأرض يعطينا دلالات بارزة أولها انفتاح الهوية الإسلامية، وثانيها العدل أكبر عامل سنني في تنمية الهوية، وثالثها غرس الولاء للدولة والأمة والالتفاف حول الدولة، ورابعها مسارعة أغلب الأقاليم إلى الانخراط في جيش المسلمين ضد إقطاعيات الفرس -حسب اللواء الركن شيث خطاب- التفاف أذربيجان والأرمن وعدد من الأقاليم ذات الخصب الوفير مع الجيش الإسلامي، مشترطين أن يبقوا في ديانتهم، مؤكدا أن ذلك الانخراط كان بعد نجاح فاعلية البناء المنشود في مؤتمر الجابية، ومع ذلك فقد استأذن قائد الجيش الفاروق فإذن له.

نصارى نجران أيام الفاروق:

هذه الشريحة تمتعت بحقوقها في ظل انفتاح الهوية الإسلامية وعدلها ابتداء من سنة 5 للهجرة، واستمروا في أمن وأمان إلى أيام عهد الفاروق قرروا ترك نجران والتوجه إلى الشام والبصرة بمحض اختيارهم، مطالبين الفاروق التعويض عن مزارعهم وبيوتهم.

انظروا إلى موقف الفاروق: لقد أخذ وثائق الأرض وكتب لكل واحد إلى أمير البصرة أو الشام بأن يعطي كل واحد بمقدار أرضه ويعطي كل واحد ألفي دينار قرض ويسقط عنهم الخراج 24 شهرا حتى يتمكنوا من تنمية أموالهم... إلخ.

 

خامسا، الانفتاح والعدل في التراث الفكري:

بناء الوعي في التراث الفقهي والفكري والثقافي أخذ صورا عدة وأشكالا مختلفة.. ونكتفي بالشواهد التالية:

- في فقه الأحناف، وتحديدا كتاب "المبسوط" للسّرَخْسي، جاء فيه: إذا اختلف مسلم ونصراني حول طفل، فادعى النصراني أن الطفل حر كافر، وادعى المسلم أن الطفل عبد مسلم، فعلى القاضي إصدار حكم بحرية الطفل والخيار للطفل بعد بلوغه، فيعتنق الإسلام أو لا يعتنق.

- في فقه الحنابلة، كتاب المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة، قال فيه: إذا تقدمت مجوسية إلى قاضي المسلمين مدعية أن أباها تزوج بها ثم مات وأنها تطلب عدالة الإسلام في منحها إرث زوجة، وإرث بنت، فعلى القاضي أن يحكم بدعواها ولا شأن له بعقيدتها. إذن، فالانفتاح والعدل والحفاظ على كرامة الإنسان والمساواة في الحقوق ظل حاضرا في تاريخ الحضارة الإسلامية بقوة وسجله الفقه الإسلامي بأنصع صوره.

- في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية احتفظت مكتبة إسطنبول بما يزيد عن 130 ألف حكم شرعي بين مسيحيين مع زوجاتهم بشأن نفقات أو طلاق أو تركة، وكذلك مع أسر يهودية ومع يهود ومسيحيين بشأن عقود تجارية ومع يهود ومسلمين، وتنص ديباجة الحكم أن الحكم صادر بناء على الرغبة والاختيار المحض بين الطرفين... إلخ.

المؤرخ الإنجليزي المعاصر في كتابه "تاريخ الحضارة"، وكذلك المؤرخ اليهودي الفرنسي في كتابه "حضارة العرب"، قررا حرفيا قائلين: لم يسجل التاريخ أبد أن الإسلام أكره أحدا على اعتناق الإسلام.. وأكثر من ذلك نجد عددا من المستشرقين المعاصرين، أحدهم الفرنسي مراسيل بوازار، قرر في كتابه "إنسانية الإسلام" قائلا: "بعد سقوط آخر مدن الأندلس لجأ اليهود إلى الدولة العثمانية وعاشوا آمنين على عقيدتهم وأموالهم"... إلخ.

المستشرق الأمريكي واشنطن أيرفنغ قال في كتابه "الحمراء"، أي قصر الحمراء، والذي خصصه كمسرحية للأطفال الأمريكيين تم كتابتها قبل 90 عاما تقريبا وقيل إنها عرضت في السينما الأمريكية مرارا، وقد كتبها بناء على طلب من الرئيس الأمريكي حينها والذي عينه سفيرا لدى إسبانيا، وقد قرر في كتابه الآنف وكتابه "محمد وخلفاؤه" قرر قائلا: الحضارة الإسلامية حضارة كونية، وإذا أرادت دولة أمريكا أن تقيم إمبراطورية كونية فلتأخذ بحضارة الإسلام التي اتسعت لكل الهويات، مؤكدا أن إمبراطورية النبي محمد لم تكن إمبراطورية سياسية توسعية وانما هي حضارة إيمان فقط، وهذا ما توصلت إليه خلال 10 سنوات من البحث، حسب قوله.

وأضاف أن حضارة الإسلام كونية لأن كتابها القرآن، وقد استوعبت الحضارة الإسلامية أعظم كتاب أدبي هو كتاب ألف ليلة وليلة.. هذه خلاصة لكلامه حول الحضارة الإسلامية، ولا يعني إيرادنا لكلامه التسليم بكل ما يقول، ولكن هدفنا هو إيراد الشهادات من العدو والصديق.

الخلاصة، التاريخ زاخر بالشهادة على انفتاح الهوية الإسلامية على هويات الغير بل وحمايتها انطلاقا من قيم الإسلام المثلى، وبفضل هذا كانت الهوية الإسلامية تستهوي الأفئدة.

النوع الثاني، الهوية المنغلقة:

أولا، الهوية المنغلقة هي الهوية المتصلبة الجامدة.. باختصار هي عكس الهوية المنفتحة.

معالم ومظاهر الهوية المنغلقة: هوية متعصبة ضيقة منكفئة على كذباتها التاريخية جاعلة منها دينا مقدسا وتفرض على الآخرين السير خلف المعتقدات الزائفة والتسليم لها والدفاع عنها وتحويل المجتمع إلى قطعان لا قيمة لها إلا خدمة الطائفية السلالية، ومن المظاهر أيضا التعصب الشديد للمذهب وتقديس الأشخاص وادعاء الحق الإلهي في الحكم ومصادرة الحقوق السياسية والثقافية وممارسة الإرهاب الكهنوتي ضد المجتمع بحقد، وإدخال الطائفية في التعليم باعتبار أنها تخدم الدين، وحاشا المعصوم رسول العدل صلى الله عليه وسلم أن يشرع ما يصادم سنن الاجتماع أو ما يؤدي إلى خرق سفينة الاجتماع.

انغلاق الهوية وتصلبها وجمودها دليل على فشلها وقرب سقوطها، ذلك أن التعصب الطائفي أو السلالي أو العرقي يعتبر مصادمة صريحة لسنن الله في الاجتماع، كما أنه يعد من أخطر المهددات والتي قد تؤدي إلى إفساد الهوية وتمزيق شبكة العلاقات، إلى غير ذلك، والتاريخ الإسلامي فيه نماذج صارخة على ما نقول، فالدولة البويهية والدولة السامانية قومية فارسية متعصبة سيما في آخر زمانها، والدولة الطبرية بطبرستان والدولة القرمطية الباطنية بالبحرين، هذه نماذج عفنة انقلبت على الدولة المركزية والهدف هو إفساد عقيدة التوحيد والقضاء على الدولة الجامعة - الخلافة.. وقد تهاوت أغلب تلك الدويلات سريعا وبعضها تأخر قليلا لاعتبارات سننية.

ثانيا، الفرق بين الدويلات:

كثيرة هي الدويلات التي انقلبت في أقاليم الدولة الإسلامية وكثير منها سقط سريعا، والسبب يعود إلى أن تلك الدويلات قامت لأجل المال والسلطان ورفعت شعار العدل وغيره، ولكنها لم تنفذ وعودها في العدل كما ادعت، فسقط كثير من تلك الدويلات، ودويلات أخرى قدمت الكثير وصنعت حضارات، وتنوعت أشكال الحضارة الإسلامية وبنت دور العلم وقدمت الكثير إنسانيا وحضاريا وسقطت بطبيعة الحال وفقا لسنة الله في التداول، لكن دويلات الشعوبية والقومية الفارسية الضيقة والباطنية والقرمطية المفسدة تهاوت سريعا نظرا للتعصب والانغلاق والجمود ومصادمة هوية الأمة.

ثالثا، مفسدات الهوية:

هذا مسرد سريع لأبرز مفسدات الهوية والمتمثل فيما يلي:

الطائفية، العرقية، السلالية، التعصب بأنواعه، الاستبداد، الفردية، تقديس الأشخاص، زيف الشرعية واهتزازها، مصادرة إرادة الجماهير، اختزال الوطن في شخص أو حزب أو جماعة، غياب مصداقية الحكومة، التبعية للغير، العبث بمقدرات الأوطان، العبث بكرامة المجتمع، التصاهر بين شلة الحكم والجيش والتجارة، إهمال التعليم، غياب العقيدة الوطنية لدى مؤسستي الجيش والأمن، وقبل وبعد وفوق ذلك الانغلاق والتصلب والتعصب، وعلى القارئ أن يقيس على ذلك.

رابعا، قياس عالمي للهوية المنفتحة:

أبرز مميزات الهوية المنفتحة أنها هوية قوية، ومن أبرز معالم القياس العالمي للهوية القوية ما يلي: حرية سياسية تحاصر الاستبداد، تجسيد كرامة وحرية الفرد والمجموع وترسيخها، اعتزاز بالذات، وسائل مناسبة لبناء المجتمع والنهوض به، شرعية سياسية تفرز قيادة سياسية مسؤولة أمام المجتمع، ولاء للأمة، احترام رغبة الأمة، شجاعة في الحق، ثبات على الحق، قوة شبكة العلاقات الاجتماعية، نخبة واعية تمسك دفة ثقافة المجتمع وتوجه بوصلته إلى أفضل مصالح الأمة والأهداف الكبرى، مساءلة السلطة عبر الأطر القانونية السلمية المشروعة، كتلة من المثقفين، عقيدة وطنية لمؤسستي الجيش والأمن.

نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بعونه سبحانه مع الحلقة الثالثة: تنمية الوعي بالهوية وفقه الانتماء للأمة.

كلمات دالّة

#اليمن