الخميس 02-05-2024 13:09:38 م : 23 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

التجمع اليمني للإصلاح.. وعي سنني ورشد سياسي (الحلقة الرابعة) الديمقراطية آليات سننية

الخميس 28 سبتمبر-أيلول 2023 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

 

تحدثنا في الحلقات السابقة حول تعقيدات الواقع الثقافي ودور الوعي السنني في تحديد الأولويات والوسائل في نجاح بناء الوعي الثقافي وأهمية ضبط المفاهيم (مفهوم الديمقراطية نموذجا)، وقلنا إن الضبط حدد مفهوم الديمقراطية أنه "آليّة - وسيلة" متصلة بالاختيار المباشر للحاكم ومراقبته... إلخ، غير أنه ظل تحديدا مجملا، ذلك أن مفهوم الديمقراطية هو منظومة من المفاهيم المتداخلة والتي قد اكتنفها لبس لا يخلو من تشويه لدى غالبية المجتمع، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الوعي السنني والرشد السياسي تجاه تفكيك منظومة المفاهيم في ضوء مقاصد الثقافة الإسلامية، انطلاقا من مفهوم "واقعية" الثقافة الإسلامية، وهو مفهوم حاضر ذهنيا بسبب الخطاب الإحيائي.

إذن، فالأمر يستدعي التطبيق العملي لبقية منظومة/آليات مفاهيم الديمقراطية، ذلك أن البرنامج السياسي لحزب الإصلاح ينطلق من أسس إسلامية، وقد نص البرنامج مرارا، والأدبيات الأخرى، على أن منطلقات الحزب إسلامية، ونص أيضا على نشر الوعي الإسلامي داخل المجتمع وإعادة بناء ثقافة المجتمع إسلاميا، بما في ذلك واقعية الثقافة الإسلامية، وأن أعظم وأبرز معالم واقعية الثقافة الإسلامية تتمثل في التعاطي مع العرف المتجدد سياسيا وثقافيا، وسنتحدث بإيجاز حول التعاطي مع العرف الثقافي المتجدد من خلال المحاور التالية.

 

المحور الأول، التأصيل المقاصدي الشرعي:

قال تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" (الأعراف، 199).

العُرْفُ مصطلح قرآني كثيف ومنهج مقاصدي ناظم لجميع سنن الله الحاكمة لحياة دنيا المجتمعات.

 

 مفهوم العرف: "العرف هو ما استقامت عليه حياة الناس مصلحة وعدلا".

مكانة العُرْف مقاصديا: "العرف المتجدد" حاضر بقوة في المنهج المقاصدي، كونه من أبرز قواعد المنهج المقاصدي أولا، وثانيا يعد أحد القواعد الأصولية، وثالثا هو أحد القواعد الفقهية الأصولية المقاصدية الكبرى، ورابعا العرف حاضر بقوة في التطبيق - ميدان المعاملات الفقهية، إلى الحد الذي جعل قاعدة "العرف" من البديهيات الشرعية الشائعة في الأوساط الفقهية بلا نزاع، ذلك أن الشيخ يوجه طلاب العلم الشرعي قائلا: "مهما (...) إذا تغير العرف فافتِ به".

ومن نافلة القول إن فقهاء المقاصد قرروا ثلاثة شروط للفتوى وفقا للعرف المتجدد، الشرط الأول: أن يكون التعامل بالعرف المتجدد ساري المفعول في المجتمع، فالتعامل يعني أن المجتمع وجد مصلحة وعدلا أفضل في العرف المتجدد.

الشرط الثاني: هو أن الدولة تكون قد قررت التوجه نحو العرف المتجدد سياسيا أو ثقافيا... إلخ، ثم إن المنهج المقاصدي عزز التعاطي مع العرف المتجدد بالقاعدة المقاصدية التالية: "كل تصرف تقاصر عن أداء المقصود ففعله باطل".

والمعنى ببساطة هو: لا يجوز للمجتمع أن يستخدم في تعاملاته وسائل لا تخدم مقاصد الشرع (تحقيق المصلحة أو العدل، وهذا يعني الدوران مع سنن الله المتجددة والحاكمة للحياة).

الشرط الثالث: ألا يتعارض العرف المتجدد مع ثوابت وقيم الشريعة الإسلامية.

إن المكتبة الإسلامية زاخرة بالمؤلفات ذات الصلة بالعرف قديما وحديثا، بل هنالك أطروحات ماجستير ودكتوراه، ولكن...

 

المحور الثاني، التقليد المذهبي أصاب الثقافة الإسلامية بمقتل:

من خلال القواعد الآنفة يلاحظ القارئ قوة الحيوية والفاعلية والمرونة التي تضمنها المنهج المقاصدي ومدى استيعابه لمستجدات الحياة.

والسؤال يقول: بما أن المنهج المقاصدي يتميز بهذه الحيوية، فما هي أسباب الجمود الفقهي؟ الجواب: لا شك أن الأسباب متعددة ولكن السبب الأبرز هو "التقليد المذهبي" في الأصول، الأمر الذي أنتج جدلا عقيما وتعصبا للمذاهب وانتهى إلى الجمود الفقهي التام فلا فقه في الوسائل ولا في سنن الحياة، وهذه الذهنية تمثل الشريحة الغالبة من حملة التخصص الجامعي وغيرهم من المرشدين.

 

ما سبق قاد إلى نتائج ثلاث كل واحدة أسوأ من الأخرى.

الأولى: اعتلالات فكرية متراكمة حالت دون أي فقه تجاه سنن الحياة ومتغيراتها.

الثانية: إطلاق التهم ضد من يدعو إلى التجديد الفقهي ووصمه بالفسق والضلال والزيغ والحداثة... إلخ.

الثالثة: فتح الباب لاتهام شريعة الإسلام الكاملة الخالدة بالتخلف والعجز عن مواكبة العصر، ومن هنا وجد العلمانيون والليبراليون واليسار متكأ لإطلاق التهم تشفيا وانتقاصا للشريعة الكاملة الخالدة.

وخلاصة ما سبق يجعلنا نتخيل صعوبة إعادة بناء ثقافة المجتمع. صحيح أن الواقع من الناحية الدستورية والقانونية يمثل نافذة إيجابية تعزز قاعدة "العرف المتجدد"، لكنه بمثابة الدرجة الأولى في السلم، وهذا وحده لا يكفي، غير أن الوعي السنني والرشد الثقافي لدى حزب الإصلاح أثبت كفاية ومهارة استطاع من خلالها الاضطلاع بمهمة بناء الوعي الثقافي وبجدارة.

 

المحور الثالث، ترسيخ مفهوم المؤسسية عمليا:

في منتصف عقد التسعينيات تقريبا اتجه حزب الإصلاح إلى عقد المؤتمر العام الأول للحزب، وقد رافق هذه العملية خطاب إعلامي قوي تعزيزا لمنظومة آليات الديمقراطية، ابتداء من الترسيخ العملي للمؤسسية داخل الحزب، وهذا الموقف أرسى صورة عملية لمفهوم الحرية، وهو المفهوم الذي لحقه التشويه المقزز (انتهاك قيم المجتمع نموذجا).

الجدير ذكره أن شخصيات يسارية وقومية من العيار الثقيل أشادت بموقف الإصلاح تجاه المؤسسية (جار الله عمر رحمه الله نموذجا)، كان ذلك في قاعة كلية الشريعة بصنعاء وبحضور كاتب هذه السطور نهاية عام 1996م.

وفي ندوة حاشدة أشاد بمؤسسية حزب الإصلاح موجها النداء إلى الحزب الاشتراكي اليمني أن يتجه إلى المؤسسية تأسيا بحزب الإصلاح قائلا: لن أكشف سرا أن ثلث اللجنة المركزية للحزب لا زالت ضد المؤسسية.

على الصعيد ذاته لم يكتف حزب الإصلاح بما سبق وإنما عزز الموقف بكتابين للأستاذ ياسين عبد العزيز، الكتاب الأول بعنوان "المساواة في ظل الشريعة الإسلامية".

وهذا تأصيل شرعي مقاصدي لمبدأ المساواة أزاح اللبس الذي شوه هذا المبدأ الإسلامي الإنساني العظيم، الأمر الذي غرس وعزز الطمأنينة لدى المجتمع وخلق الثقة المتينة بشريعة الإسلام أنها قادرة على مواكبة الحياة.

ولأن التقليد المذهبي في الأصول قد حسم قناعة شريحة كبرى من حملة الليسانس (دراسات إسلامية وشريعة)، خلاصة تلك القناعة هي تقزيم مبدأ الشورى في الإسلام بأنها غير ملزمة، بل إن عقليات فقهية محل اعتبار لكنها ضحية التقليد المذهبي، فقد اعتبرت أن الفقيه الشافعي، الجويني رحمه الله، أنه لم يتحدث في كتابه المعروف "غياث الأمم" عن الشورى لا من قريب ولا من بعيد.

إذن، مبدأ الشورى لحقه التقزيم في أقل الأحوال، ولحقه الدفن في أسوأ الأحوال، ولكن مبادرة أخرى للأستاذ ياسين عبد العزيز إنقاذ لمؤسسة "الشورى" تمثلت في كتاب بعنوان "الشورى"، والكتاب تميز بالرصانة، كعادة الكاتب فقد عكس وعيا تاما بقضيتي هما الحال التي لحقت بالشورى، والثانية "منظومة ٱليات العرف المتجدد"، وهنا اتجه الأستاذ إلى نفخ الروح - قرآنيا - تحريكا لمبدأ الشورى والذي هو أعظم السنن الحاكمة للاجتماع. وقد تمثل نفخ الروح - عقديا - مشيرا إلى أن مقاصد خلق الإنسان لها غايتان، الأولى عبادة الله وتوحيده: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون".. والغاية الثانية هي استخلاف الإنسان وعمارة الأرض وفق المنهج الرباني، وقد حدد صيغة الغاية الثانية قائلا "الأمة مستخلفة".

هذه الصياغة الذكية تقتضي تساؤلات عدة أهمها: كيف يمكن تحقيق عبادة الاستخلاف؟ هنا تنفتح الآفاق الفكرية بحثا عن الوسائل التي من خلالها تتحقق تلك الغاية التعبدية.

 

المحور الرابع، التعاطي مع آليات الديمقراطية:

الحرية، هذا المبدأ العظيم أصبح له معنى مختلف شاخص في التصور قادم من دلالة دينية أبعادها - شرعيا وإنسانيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وتعبديا، باختصار تغير تصور المجتمع إيجابيا تجاه مبدأ الحرية والمساواة من الفوضى والعفوية إلى المؤسسية ومن التهميش للفرد إلى إحياء مبدأ كرامة الإنسان والشعور بالذات دينيا، ومن المفهوم الطبقي إلى المساواة امام القانون، وتحقق عمليا أهم مبادئ ثورة الـ26 من سبتمبر والتي ظلت حبرا على ورق طيلة ثلاثة عقود، لكن المجتمع اليوم يشاهد تحقيق مبدأ المساواة من أفق عقيدته وهويته.

وهنا وصل المواطن بسهولة إلى المعنى المفهومي لمبدأ المواطنة المتساوية وتحقيق مبدأ الانتماء الوطني، وأنه من صميم مقاصد الشريعة، كيف لا وهي آليات ووسائل تتحقق من خلالها قيم الدين والحريات والحقوق... إلخ.

كما أن المبادئ الآنفة اقتضت حضور مبدأ التعارف وهو مبدأ إسلامي أوسع ينضوي في إطاره ثلاثة مفاهيم هي التعايش، والتسامح، والقبول بالآخر، ذلك أن مبدأ التعارف قادم من سنة كونية اجتماعية هي سنة "الاختلاف" والتنوع، قال تعالى: "ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم".

فهو اختلاف وتنوع في ظل الوحدة والأخوة، ومن نافلة القول إن حرية الرأي أصبحت تتميز بالاحترام القادم من قدسية الكرامة الإنسانية والحرية... إلخ.

 

المحور الخامس، التسليم بمخرجات الديمقراطية:

نلاحظ ذلك في موقف حزب الإصلاح والمتمثل في صعود الحزب إلى المشاركة في السلطة بعد الانتخابات النيابية عام 1993م، وكانت تلك المشاركة من الإصلاح تسليما واقتناعا بمخرجات الصندوق الديمقراطي. وفي انتخابات عام 1997م نجد الإصلاح خرج من السلطة تسليما بمخرجات آلية الديمقراطية باقتناع تام ترسيخا لثقافة الديمقراطية، معتبرا ذلك انتصارا لمبدأ الحرية، علما أن الإصلاح اتسعت شريحته في التصويت عام 1997، حيث تجاوزت 800 ألف صوت قياسا بانتخابات 1993، التي قاربت 370 ألف صوت.

الجدير ذكره أن الإصلاح خلال تلك الفترة عقد ندوات عامة ومشتركة وتقديم أوراق عمل وبحوث إلى جانب الخطاب المسجدي وعبر ما يمتلكه من صحف ظل الإصلاح يخاطب أعضاءه وأنصاره والمجتمع عموما بأهمية احترام الديمقراطية، داعيا إلى تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات وصولا إلى قيام نظام ديمقراطي سليم وتحقيق مبدأ الدولة المدنية عمليا على أرض الواقع، وفور خروجه من السلطة عام 1997 صرح لوسائل الإعلام بأنه سيعمل بمبدأ المعارضة البناءة بعيدا عن المناكفات والابتعاد عن المفهوم الهش "المعارضة لأجل المعارضة".