السبت 04-05-2024 14:17:31 م : 25 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

البناء الفكري.. مكوناته وأهدافه (2-3) البناء الفكري.. غايته أو وظيفته

الثلاثاء 18 أغسطس-آب 2020 الساعة 04 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي

 

تنويه:
حتى يترسخ الإحساس لدى القارئ بضرورة "البناء الفكري" ودوره في إصلاح الحياة وصولا إلى النهوض الحضاري، فقد قررنا تقديم المزيد من البواعث والدوافع الداعية إلى البناء الفكري ثم الحديث عن "غاية البناء الفكري" فنقول:

أولا: البواعث والدوافع

- إن الواقع العربي الإسلامي المعيش متغير 100%.

- واقعنا الذي نعيشه ليس من صنع أيدينا - أي ليس وليدا شرعيا لثقافتنا.

- هناك إيجابيات في واقعنا الثقافي.. لكنها مشتبكة مع قيم سلبية.. والسبب هو استيراد الوصفات الجاهزة من الغير، تلك القيم التي ولدت في بيئة مختلفة عن مجتمعاتنا بنسبة 90% - ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وتربويا واجتماعيا وإعلاميا.

ثانيا: تجليات الواقع

- ذوبان الهوية الثقافية.
- صراع مع الذات.. ليس صراعا ثقافيا فحسب وإنما صراع قادم من ضبابية حالت دون الرؤية والتمييز بين المشكلة وسببها.. من جهة.. وبين المعالجة ووسائلها الصحيحة من جهة ثانية.
- فصام بين المعتقد الذهني والواقع..
والنتيجة اصطدام المسلم العادي بواقع يخالف هويته ومعتقده.

ثالثا: الدمار الشامل

- تمثل الدمار في الصراع الدموي تحت مسميات إسلامية شعارها الدفاع عن الهوية والعقيدة.
- ظهور جماعات تم اختراقها مخابراتيا من جهات خارجية وداخلية، موظفة مقولات من تراثنا التاريخي.. مع إغفال متعمد للسياقات الظرفية التي ولدت فيها تلك الفتاوى.. وهو سياق مختلف تماما عن واقعنا المعيش.
- عقد مصاهرة بين الاستبداد السياسي والجمود الفقهي.
- أنجبت المصاهرة الآنفة استبدادا دينيا داعما للطغيان السياسي.
- حشر الدهماء ضد التجديد الفكري والفقهي والثقافي.. فتولد استبداد ثالث هو الاستبداد الاجتماعي.. وهنا التقينا مع المثل العربي القائل "وقعت علينا ثالثة الأثافي".

- إسباغ القداسة على الاجتهادات الفقهية في التراث، فأصبحت تلكم الاجتهادات مقدمة على مقاصد القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.
- دخلت أمتنا دروبا من التيه أكثر من 100 عام أفضت بها إلى اللاشيء.. ويا ليت أمتنا وصلت إلى اللاشيء لكان الأمر أهون -رغم ما فيه من الفساد والإفساد.
- علاقة سفاح بين التيه والضياع تحت عين الاستبداد أنجبت انحرافا في التصورات والأفكار وسط شرائح متحمسة إلى "موائد التفاح وحور العين"، فسفكت الدماء البريئة مصحوبة بالدمار المجتمعي الشامل.

رابعا: تجديد الجهاز

الجهاز المفاهيمي الذي يطلق المعالجات بصيحات الوعظ لم يعد مجديا في تشخيص المشكلات.. وإنما أضاف مع الجراح تكسير العظم.

وعليه، الحل يكمن في تجديد جهاز التشخيص القادر على قراءة أبعاد المشكلات وذلك من خلال "البناء الفكري".

فالجهاز المفاهيمي التقليدي عاجز عن معالجة قضايانا مهما سعى وتحمس.. والسبب "فاقد الشيء لا يعطيه".

نعم هنالك عدد من الفقهاء الكبار لا بأس به قدموا جهودا مشكورة في مجال التجديد الفقهي انطلاقا من المنهج المقاصدي.. غير أن تلك الجهود لا زالت تصطدم بعقلية الممانعة والرفض الصادرين عن تركيبة العقل الوعظي العاكف على المنقولات التراثية.. هذه الممانعة ليست عفوية، وإنما وراءها مؤسسات تعيد إنتاج الجمود تحت شعارات وعناوين مصحوبة بإرهاب فكري واستعلاء ذاتي من خلال لغة تعيش فكرا تجديفيا.. لا يفرق بين كليات الدين وقيمه الكونية الكبرى.

باختصار، أصبح الخطاب الديني يخدم خصومه.. جاهدا ليل نهار في تحذير المجتمع من أن الدين في خطر.. خطاب يرسل الاتهامات المتعسفة بأن الدعوة إلى "المنهج الفقهي المقاصدي" دعوة مشبوهة.. هدفها ضرب نصوص الكتاب والسنة والإجماع والأصول المتفق عليها عند فقهاء المسلمين قاطبة.

بل وصل الأمر إلى إطلاق فتاوى تخدم العنصرية والسلالية وتضرب القيم الإسلامية الكونية الكبرى - كالكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والعدل والقيام بالقسط.

وما أصدق القائل:
رام نفعا فضر من غير قصد
ومن البر ما يكون عقوقا
فهل وصلنا إلى ثقافة الدب الذي ضرب رأس مالكه بصخرة قاتلة بحجة أنه يطرد الذباب عنه؟

خامسا: ضرورة نافعة

لعل القارئ قد وصل إحساسه إلى خطورة الموقف من خلال تلك البواعث الداعية إلى ضرورة "البناء الفكري".

سادسا: غاية البناء الفكري

1- الغاية أو الوظيفة من الدعوة إلى البناء الفكري هي: تكوين الفقيه تكوينا فكريا.. عقليا.. يتضمن منهجا وآليات تمكنه من النظر العميق، وإحاطة وإدراك لأبعاد المشكلة.. مستندا إلى معارف الوحي المتمثلة في منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى.. وكليات التشريع، ومبادئه الإنسانية والحضارية.

سابعا: أهداف البناء الفكري

1- بناء الفكر وتكوينه وصولا إلى امتلاك آليات تشحذ الفكر حتى يتمكن من طرح الأسئلة الدقيقة تجاه المشكلة، ذلك أن الأسئلة الدقيقة هي مفتاح النظر والتشخيص الصحيح..
الطريق الصحيح إلى الأسئلة تضمنها الهدف التالي وهو:
2- إعادة تعريف العلم بأنه ليس قراءة واطلاعا فقط.. وإنما العلم هو الإحاطة والإدراك العميق بالقضية محل البحث وتحديد الأسباب الجوهرية والثانوية.

3- إدراك العلاقة بين القضية محل البحث وبين السنن الحاكمة للاجتماع من جهة.. وبين منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى من جهة ثانية.. وصولا إلى تحديد مكانة المشكلة بين أولويات العلاج.

4- معالجة المشكلات انطلاقا من معارف الوحي.. وخارطة منظومة القيم الإسلامية الكونية الكبرى، ذلك أن جملة "منظومة القيم" تعني
اتساق المنظومة وعدم تفتيتها وتجزئتها.. فهذه هي التعضية التي ذم الله أصحابها: "الذين جعلوا القرآن عضين)**.

5- تقديم حلول للمشكلات من خلال سلم القيم الكبرى -إنسانيا.. وحضاريا.

نلتقي بعون الله مع المنهج المنشود وصلته المتينة بمنظومة القيم.

** هامش..
سيتم ضرب أمثلة حول الاتساق والتفتت القيمي في الحلقة القادمة.