السبت 18-05-2024 14:27:52 م : 10 - ذو القعدة - 1445 هـ
آخر الاخبار

قيمنا الحضارية.. من فاعلية التوحيد إلى غيبوبة التدين الحضاري

الجمعة 10 مايو 2019 الساعة 11 مساءً / الإصلاح نت - خاص / أ. عبد العزيز العسالي

 

الحلقة الثانية: غيبوبة التدين الحضاري

عرفنا في الحلقة الأولى الأبعاد الحضارية للتوحيد، وعرفنا أن عقيدة التوحيد هي الينبوع الذي أعطى الحضارة الإسلامية زخمها وفاعليتها فظلت تعطي 500 عام في الجانب الفلسفي النظري الحضاري، وأن الجانب الحضاري العملي استمر قرابة ألف عام.

من خلال ما سبق يمكننا القول إن الخلل بدأ فكريا، وتمثل في انفصال القيم الحضارية التي تتمثل في قيم التدين الجماعي انفصالا نظريا عن روابطها المتجذرة في عمق عقيدة التوحيد وأبعادها الحضارية. هذا الانفصال حصل تدريجيا، علما بأن عطاء القيم الحضارية ظل في جانبه العملي لاعتبارات سنذكرها لاحقا.

وفي هذه الحلقة سنسلط الضوء حول انفصال قيم التدين الحضاري الجماعي عن عقيدة التوحيد، كيف بدأ؟ ومتى؟ وما هي أسباب الانفصال الأكثر تأثيرا؟ وذلك تحت المحاور التالية: حقيقة المرض، ومظاهره، والغيبوبة الحضارية ونتائجها.

المحور الأول: حقيقة المرض

قلنا إن الخلل تمثل في انفصال قيم التدين الحضاري الجماعي عن عقيدة التوحيد، إذن، كيف بدأ هذ الانفصال؟ الإجابة فيما يلي:

أولا، تصنيم الحاكم

من هنا بدأ خط الانحراف عن عقيدة التوحيد، والتي من لوازمها عدم تقديس الأشخاص أيا كانوا. هذا هو المسمار الأول الذي أُقحم بل وفرض بقوة السلطة، فلاقى صمتا فقهيا، بل وصل الأمر إلى التأييد تارة والتبرير والتماس الأعذار تارة أخرى.

إذن، هذا الانفصال يعتبر أول الخطوات في طريق فصل القيم الحضارية المتمثلة في التدين الجماعي، حيث تم فصلها عن جذورها العقدية فصلا نظريا على المستوى الذهني، لأن عصر التدوين الكتابي كان متأخرا.

ثانيا، الصراع السياسي

عامل الصراع السياسي المبكر كان له دور في ترسيخ صنمية الحاكم على المستوى الذهني بين فريقي السنة والشيعة، فتولد عن الصراع السياسي المبكر حراكا فقهيا وفكريا وجهويا، وأعني بالجهوية ما سمي بعد ذلك بـ"سنة الشام، وتشيع الكوفة".

تولد عن الصراع الآنف عوامل رسخت صنمية الحاكم، وأبرز هذه العوامل:

1ــ التمذهب الجهوي المبكر

من المعلوم أنه بعد عام 64 هـ استتب الحكم لمروان بن الحكم وبنيه من بعده (دولة بني أمية).

كان الانقسام الجهوي حاضرا، فالكوفة وفارس كلها والحجاز واليمن كانت تحمل شيئا من النقمة على الأمويين ولكنها نقمة حبيسة في الصدور حفاظا على المصالح، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هذه النقمة هي من سنن الاجتماع التي تتولد عن إضاعة حق الأمة المتمثل في الشرعية السياسية التي شرعها الله بنصوص مقدسة، {وأمرهم شورى بينهم}. هذه النقمة السننية شيء طبيعي وليست كما وظفها المتعصبون في مدوناتهم بأن النقمة كانت بسبب ضياع حق علي وعياله أو العباس وعياله، فهذا التوظيف جاء متأخرا عن التمذهب، ولأن التمذهب سبق التدوين فقد جاء عصر التدوين والمذاهب جاهزة في الأذهان عند الفريقين، وبالتالي فقد جاء عصر التدوين فكان القاصمة فكريا وسياسيا وفقهيا... إلخ.

لقد كان كل فريق يبحث عن مرجعية قوية يسكت بها الخصم، هذه القوة المسكتة لا توجد في غير نصوص الدين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، أن الثقافة السياسية يومها لم تكن قد تبلورت بصورة واضحة وإنما كانت مشتبكة متداخلة مع نصوص الدين عقيدة وتشريعا.

2ــ فكرة الجبر

هذا العامل جاء وليدا للصراع مع الحاكم الذي أراد أن يضفي على أخطائه قدسية سماوية، وأنه لا حول له ولا قوة. إذن، فكرة الجبر تعني أن الإنسان ليس له إرادة ولا اختيار وإنما هو مُسيَّرٌ كالريشة في مهب الريح، هذا التمذهب المبكر أنتج فكرة الجبر هروبا من المساءلة، فانقلب هذا الانحراف دينا وتشريعا. بكلمة، نتيجة الصراع كانت تبريرا للظلم.

وبطبيعة الحال فإن الطرف الآخر سيلجأ إلى المجال الديني لإبطال استدلال الحاكم وسيشتد الصراع أقوى في مواجهة تبرير الظلم.

3ــ دور الثقافة الفارسية

لا شك ولا ريب أن الثقافة الفارسية، سياسيا واجتماعيا، كانت حاضرة وبقوة، وقد وظفها الفريقان، فريق السنة في الملك الوراثي أمويا وعباسيا، ووظفها التشيع في تقديس عيال علي، علما بأن الفريقين حادا عن القيم الحضارية الإسلامية التي جاءت بالتدين الجماعي بدءًا من الشورى ذات البعد القداسي السماوي.

4ــ الشورى الشكلية

الشورى الشكلية وليد طبيعي لمفهوم صنمية الحاكم شيعيا وسنيا، وبعض الكتاب الأجانب يسمي هذه الشكليات بالحمل الكاذب.

أنتم أيها الناس أحرار في الاختيار فاختاروني أنا، فالسني مع التوريث العباسي شاء أم أبى، فأين الشورى؟
والشيعي مع الحق الإلهي المدعي أن الحكم لعيال علي من يوم خلق الله السموات وخلق آدم وسائر الخالق لأجل علي وعياله. تم تدوين هذا الانحراف وأصبح تشريعا مقدسا.

النتائج

أ- تقزيم الشورى

لم تعد الشورى في المنظور الشرعي أنها سنة الله في النفس والاجتماع السياسي، حيث استطاع سوط الجلاد أن يحدو الفقيه فقام بإزاحة الشورى من مكانها المقاصدي العتيد المتمثل في الاجتماع السياسي إلى مكان جوار جزئية فقهية مندوبة (المضمضمة والاستنشاق).

ب- ضياع الشرعية السياسية

هذا التشريع السماوي العادل وضعه الله بيد الأمة لتختار وكيلا عنها ليخدمها، لكن تصنيم الحاكم وصل بالأمة إلى ضياع حقها وخذلها عن صناعة قدَرِها السنني الرباني.

ج- إعلان الحرب على العقل

قضيتان متلازمتان هما إلغاء الشورى ومحاربة العقل السنني السياسي، الذي يقول إن مبدأ الشورى يحمي مصلحة الأمة ويقلم أظافر التسلط ويحد من تغول الحاكم والحكومات، فهذا تفكير ممنوع.

د- محاربة الفلسفة الدنيوية

أستطيع القول إن هذه النتيجة كانت قاصمة الظهر للقيم الحضارية الإسلامية والتدين الجماعي.

لقد تم الحكم على الفلسفة عموما بأنها ضد العقيدة والتوحيد والإيمان بالغيب والقرآن والسنة.

كان هذا خلط متعمد سياسيا، فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى الفلسفة في جانب الغيب، ولكننا بحاجة إليها في عالم الشهادة الدنيوية، علما بأن نظرية أهل السنة عن الدولة أنها أمر دنيوي وهذا كلام سديد بلا نزاع، فما الذي خذل الفكر السني حتى قال بما أن إقامة الحاكم هي ضرورة دنيوية فإن الشورى لا داعي لها. تناقض مركب وتهافت غريب.

الفلسفة في العقيدة حرام وسلمنا بهذا، لكن ما الذي جعل التفكير الفلسفي السنني في قضايا الحياة ومعرفة مقاصد الشورى حراما؟ إنها صنمية الحاكم لا غير. أما الشيعة فالفلسفة عندهم سُننية الاجتماع في الشورى حرام، ولم؟ لأن إقامة الحاكم من العقائد.

الخلاصة هنا

- اختلفت نظريتا السنة والشيعة حول وجود الدولة، ولكن للأسف اتفق الفريقان على النتيجة وهي تقزيم الشورى وإزاحتها بعيدا.

- إلغاء العقل يعني إلغاء لسنن الله في النفس والاجتماع وإلغاء لقيم حضارة التدين الجماعي.

- إعلان الحرب على الفلسفة الدنيوية كان دفنا للعقل بامتياز في هاوية بعيدة القاع.

المحور الثاني: مظاهر المرض وتجلياته

1ــ الصراع بين أولاد العم تحول عقائد متبعة وتشريعات لازمة.

2ــ توزيع أوسمة الضلالة والتفسيق والتبديع والزندقة ضد كل من سيفكر ويتحدث عن نعمة العقل، وصولا إلى القتل تعزيرا أو حد الردة.

3ــ تحريم الرأي، أيا كان هذا الرأي صوابا أو نصف صواب فهو حرام، والشعار هو "الرأي ليل والحديث نهارُ". انتبه، لماذا الحديث؟ لأن المطبخ الفارسي كان قد نجح في تزوير الروايات السياسية خصوصا وتقديس أئمتهم فجاء العباسيون وقلبوا السحر على الساحر ووظفوا الأحاديث السياسية وأضافوا عليها لصالحهم، إذن طبيعي أن يكون الشعار "الرأي ليل والحديث نهار".

4- أصول نظرية

بعد عصر التدوين تم تدوين ما سبق وأصبحت نظريات بل أصول غير قابلة للنقاش، والدليل هو النتيجة التالية:

5ــ سيف الإجماع

تم إغلاق باب الاجتهاد في مطلع القرن الرابع وإشهار سيف الإجماع في وجه المخالف والبديل هو التزام مذهب معين وعدم التمذهب يعني زندقة.

6ــ التصوف الفلسفي

التصوف الفلسفي بدأ شيعيا في القرن الرابع الهجري، ثم تحول إلى نظرية صوفية سُنِّيَّة في القرن الخامس الهجري، وخلاصته عقيدة جبرية 100% مفادها: بما أن الله مالك الملك يتصرف في ملكه دون اعتراض عليه، فكذلك الحاكم، أي ميدان إجرام الحاكم هو الإنسان فليفعل ما يشاء دون اعتراض، لأن الاعتراض على الحاكم اعتراض على قضاء الله.

تنظير الجبرية قاتل للعقل، وأغلق باب النظر في السنن، وأصبح هذا التنظير هو الشائع في ميدان الفقه والتربية وبناء العقول بل والثقافة العامة والخطاب العام.

صحيح أن المنهج الأصولي كان قد رفض هذه الجبرية داخل كتب الأصول، لكنه منهج نخبوي أولا، وثانيا وبعد إغلاق باب الاجتهاد منهج الأصول تعليمه من باب الإعلام للطالب فقط أن هناك شيئا اسمه منهج أصولي ولكن لا يجب إعماله إلا لكبار العلماء وهم غير موجودين.

7ــ تناقض في التشريع الفقهي

تجلى هذا في إطلاق الحكم على العالم المجتهد بأنه مبتدع وداعية ضلالة وعقوبته قد تصل حد القتل.

بالمقابل، لو أن الحاكم أجرم أشد من فرعون وأحدث أخطر البدع في الاعتقاد والتشريع وعطل أحكام الشريعة، فهو مقدس، ولا تجوز مخالفته، ولا عصيانه، فهو ينفذ قضاء الله المسير سماويا.

8ــ تلغيز الشريعة

نعم تحولت الأحكام الشرعية إلى ألغاز مفككة متناقضة بلا هدف ولا علة ولا غاية ولا مقصد ولا حكمة.

والأخطر هو تهميش سنن الله في النفس والاجتماع والكون ومحاكمتها إلى خالقها الذي يبطلها إذا شاء بالمعجزات، وهذا إرهاب فكري وأي إرهاب، ذلك أنه لا يوجد من ينكر المعجزات، لكن هل الأصل أم الاستثناء؟

لقد كان هذا التجلي انتكاسا للعقل في مكابرة صارخة، فالسنن هي الأصل وهي قانون الله وقضاؤه وأمره، ومن خصائص السنن أنها لا تجامل أحدا وإنما من تعامل معها استجابت.

لكن التلغيز القاتل للتشريع هكذا دفعنا إلى هوة فانفصلت القيم الحضارية عن روحها المعطاء فأصبح الاستثناء هو الأصل والعكس.

استمر عطاء الفلسفة أخلاقيا إنسانيا طيلة خمسة قرون، ثم اشتدت الحروب على الفلسفة فماتت الفلسفة الإسلامية.

  

المحور الثالث: الغيبوبة الحضارية

انطفأ العطاء النظري للفلسفة الإسلامية أخلاقيا نهاية القرن الخامس الهجري، وظلت القيم الحضارية الإسلامية تعطي في الجانب العملي لأن الدولة كانت تتمثل في أربع وزارات فقط، والمجتمع الأهلي والوقف الإسلامي هو مصدر الإنتاج الحضاري العملي كدافع ديني سلوكي إنساني.

منعطف حضاري وافد

أفاقت الأمة في العصر الحديث أمام حضارة مختلفة المنطلق والآليات والغايات، فوجدت أمة الإسلام أنها تعيش في غيبوبة حضارية بامتياز ظلت حتى اللحظة، وتوقفت القيم الإسلامية عن العطاء لأنها انقطعت صلتها بعقيدة التوحيد وأبعادها الحضارية إنسانيا واجتماعيا، فماتت الفاعلية.

وهكذا لم ينكشف لأمة الإسلام أنها تعيش غيبوبة عقلية إلا عندما اصطدمت بمنعطف حضاري مختلف.

هل بالإمكان استئناف المشوار؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون بعونه سبحانه موضوع الحلقة الثالثة.

كلمات دالّة

#الإسلام