الجمعة 19-04-2024 21:23:53 م : 10 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الصنمية الثقافية المعاصرة.. الحلقة (3): النخبة والحلقة المفقودة

الثلاثاء 26 يناير-كانون الثاني 2021 الساعة 05 مساءً / الإصلاح نت-خاص / عبد العزيز العسالي

 

إضاءتان:
- لقد كان فرعون غبيا أي غباء وهو يذبح الأطفال، ولو أنه افتتح مدرسة وعلم الأطفال أنه إلٰه فإن فكرته ستجد الرواج والقبول والإجلال والحب والتقديس. 

- العقل المستهلك للثقافة التي ولدت في زمن أو واقع مختلف، هو أشبه بمن يشتري عبوة الأندومي وصب عليها الماء الساخن، وبعد ثوان معدودة تناولها، ثم خرج يطلق ادعاءاته أنه طباخ ماهر يعيش حياة الحضارة المعاصرة. 

إذا تأملنا بعمق في هاتين الإضاءتين دلالة ومفهومها، نجد أنهما قد رسمتا سهما يشير بجلاء إلى أصل الداء الضارب الأغوار في مسارب ذهنية النخبة العربية عموما، المتغربة والمحافظة، بل وتوضح للقارئ عمق وسعة جراحنا المتقيحة، الجراح الذي أصاب عقلية النخبة العربية بكساح مزمن، جراح طال أمده حتى اللحظة دون أية معالجة جادة على المستوى السياسي والفضاء التعليمي والتربوي العام.

وعليه، فما هي الحلقة المفقودة؟ الجواب:

أولا- غياب فلسفة السنن الحاكمة للحياة إنسانيا، وفكريا، وتربويا، واقتصاديا، وثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، وحضاريا. والسبب هو أن العقل الإسلامي المحافظ والمنافح عن قيم الأمة من الذوبان والتلاشي أمام الثقافة الغازية، هو عقل متشبع بموروث فكري منطوقه ومفهومه تحريم الاشتغال بالفلسفة.

كما أن الجمود والتقليد الذي حدث مطلع القرن الرابع داخل الفكر الإسلامي حال دون إعمال العقل النظري في الأسباب والعوامل التي أدت إلى تحريم بل وتجريم الاشتغال بالفلسفة، وبالتالي لو كان العقل يمتلك أسلوب البحث العلمي والمسؤولية الأخلاقية كان سيجد أن أسباب تحريم الفلسفة متصلة بمجال العقيدة، والشعائر التعبدية فقط، وهذا لا خلاف عليه، كون عقيدة الإسلام قائمة على الوحي المعصوم الغني عن الفلسفات.

ثانيا- القاصمة الفكرية: 

إذن، قاصمتنا الفكرية هي انسحاب تحريم وتجريم الفلسفة من ميدان العقيدة إلى ميادين الحياة العامة القائمة على فهم الحكمة من إرادة الله في خلق سننه الكونية التسخيرية الحاكمة للنفس والاجتماع.

لا نبالغ إذا قلنا إن وطأة الجمود والتقليد كانت ولا زالت أقوى الموانع الفكرية والفقهية التي أقصت العقل الفقهي بعيدا عن النظر في مقاصد القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

النخبة التغريبية (النخبة الليبرالية والحداثية واليسار الماركسي واليسار القومي):

بريق الحضارة المادية كان قد عصف بهذه العقلية، الأمر الذي دفعها إلى التسرع وهي في ذروة دوخانها، إلى فرض ثقافة الغرب في واقع مختلف ثقافيا وحضاريا، مستخدمة قوة السلطة لإسكات الصوت المحافظ، يصاحب هذ الاستبداد والطغيان نعيق إعلامي يشيد بالفلسفة الغربية.

ردة الفعل المحافِظة: 

 اتجه العقل المحافظ إلى نبش الموروث الفكري الإسلامي المحمل بتجريم الفلسفة ومساوئها والعقوبات. 

باختصار، نخبتنا بمجموعها تعيش فقرا مدقعا في مجال فلسفة الحياة. سيقال هناك علماء مجددون، نقول نعم، وهم على قلتهم يعيشون بين شقي رحى: الأول، الخوف من وصمهم بالتغريب والانبطاح والعمالة وصولا إلى التكفير. والثاني، وهو نتيجة للأول، أن دعاة التجديد لا يتمتعون بحضور قوي في الفضاء الثقافي والفكري العام، فالصوت الأكثر حضورا هو الجمود والتقليد المحروس بالإرهاب الفكري والاستبداد السياسي والاجتماعي والديني.

ثالثا- الصنمية بثوب جديد:
 
من المسلّمات البدهية أن الوسط التربوي والأكاديمي هما مصنع الأفكار والعقول، وعليه، فهل الوسط التربوي والأكاديمي العربي صنع فكرا إنسانيا وحضاريا ملحوظا في واقعنا؟ لسنا بحاجة إلى استعراض البراهين على كثرتها، وإنما نشير إلى موقف الوسط الأكاديمي مع الثورة المضادة للربيع العربي.

غير خاف موقف حمَلة أعلى الشهادات في الوسط الأكاديمي والجهاز التنفيذي للسلطة انكشفوا أنهم مجرد دجالين مؤدلجين، لقد سقطت الأقنعة فتعرت أوهام المعرفة، لاهثة ساعية إلى التقرب من بيادة منقلب على الديمقراطية، أو مليشاوي منقلب على الشرعية الدستورية، ناهيك عن إدانة زعيم خائن.

رابعا- الصنمية الأكاديمية: 

العقل المستهلك لثقافة الغير.. هيهات لطباخ الأندومي أن يبدع.. جل ما أنتجه الوسط الأكاديمي هو صنمية الدكتور أمام الطلاب فقط لا غير، فالدكتور هو الحاكم بأمره ولا معقب لحكمه، وكم يا ضحايا من النابغين المتميزين حقا، لكن الدكتور الصنم المقدس يقرر حرمان أو رسوب أو هضم معدّل الطالب، وليس هناك مجالا للمناقشة، فهل هذا وسط علمي يبني عقولا أم هو مستنقع أحقاد واستعلاء للصنمية باسم العلم؟

في اليابان، طفل الصف الرابع الأساسي يناديه المدير والمعلم والمشرف والموجه "يا أستاذ"، وأكاديمياتنا العربية هي مقابر للإبداع. 

غياب القيم: 

المقصود بالقيم هو القيم العلمية والفكرية والخلقية، فمهما رأينا الدكتور يصلي و... إلخ، ونجده يهضم الطالب ظلما ولا رادع من دين ولا زاجر من ضمير، فأين هي القيم الخلقية؟ أين الأمانه العلمية؟ نعم، الطالب المتميز يسقط والفتاة كسولة الفهم تفوز وبتميز، هذا عمل متكرر سنويا.

كارثة الإتجار بالتعليم: 

صنمية المال: الزبون أولى.. هذا الشعار الفج هو وليد شرعي للإتجار بالتعليم، وكم تفاءل البعض بنهضة التعليم.

تصور معي أيها القارئ أن الموظف في الأكاديمية الخاصة يصدر التعليمات لأعضاء هيئة التدريس قائلا: "يجب على المدرس أن يصيغ أسئلة الاختبارات من عناوين الفصول أو المباحث، ولا يحق له أن ينتزع السؤال من وسط الصفحة، يشهد الله عليّ أن هذا حاصل".

ويضيف الموظف: "إذا وجدنا أن نسبة النجاح أقل من 50% فلن نقبل النتيجة"، وهكذا تتهاوى الصنمية التي تمارَس في الجامعات الرسمية، ها هي الصنمية تتهاوى مقابل مبلغ تافه جدا، قلما يصل إلى ربع ما يتقاضاه في الجامعة الحكومية. 

والسبب المحوري أن غالبية الأكاديميين فقراء قيميا، والدليل على الفقر القيمي يتجلى لدى خريجي الجامعات بوضوح.

خامسا- عجز في جانب الإبداع: 

أصنام الأكاديمية وخصوصا في مجال العلوم الإنسانية: تاريخ، علم اجتماع، علم النفس وفروعه، علم اللغة العربية، الأدب وفروعه، أصول التربية، الإدارة، العلوم السياسية، القانون وفروعه، القانون الدستوري والفكر الإسلامي، والفلسفة.. كم هناك من رسائل الماجستير، وكم هناك من أطروحات دكتوراه في هذه المجالات في كل الجامعات العربية خلال 50 عاما فقط؟ هل تجد فيها نظرية جديدة؟

كم هي البحوث الخاصة بالترقية من دكتور إلى أستاذ مشارك أو أستاذ دكتور؟ تخيل معي أنه ركام مهول جدا من البحوث العربية خلال 50 عاما، لا تجد فيها نظرية واحدة، فهل هذه أكاديميات أم معامل تجهيل وتكريس للصنمية؟

سادسا- في ورشة أكاديمية دعت إليها مؤسسة ثقافية في تعز، بعد 11 سبتمر 2001 تمحورت الورشة حول سؤال: هل المقرر الجامعي يحتوي على بذور الإرهاب؟ الورشة استمرت قرابة أسبوع، وفيها أكاديميون أشقاء.

باختصار، تقدم أحد أكاديميي الفكر الإسلامي برسم بياني وضح من خلاله نسبة فقر المقرر الصانع للفكر، ونسبة مقرر الحفظ ومقررات مكررة، فكانت النتيجة 2% للفكر، هذه النسبة من حيث الكم، أما من حيث المدخلات الصانعة للفكر فهي أقرب إلى مقرر الحفظ بنسبة عالية.
 
الغريب أن جل الحاضرين في الورشة والذين أسهموا في الأوراق أو المداخلات تورمت أنوفهم امتعاضا واستنكارا لتلك النتيجة المخزية. 

غير أن قفشة أسوأ وأخزى أطلقها أحد الحضور قائلا إن تغيير المقرر يعني تعذيبا للدكتور في صياغة أسئلة الاختبارات، لأن أغلب الدكاترة لم تتغير أسئلتهم منذ عشر سنوات فأكثر، وتعالت الضحكات، فالصمت، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".

سابعا- المجتمع المدني:
 
غير خاف أن ميدان التعليم هو المدارس والجامعات، بخلاف ميادين التربية فهي كثيرة: المسجد، الشارع، النادي، السوق، النقابة، المنظمة، الجمعية، الحزب، المنتديات، والمدارس والجامعات أيضا، فهل هذه الميادين قدمت شيئا في المجال التربوي؟

في أحد المنتديات استشهد أحدهم في مداخلته بالفضيحة المشهورة، وهي بيع الغاز اليمني لكوريا بثمن بخس، ورغم قلة تفاعل الحضور، فقد انبرى صوت دكتور لغة عربية من "طرف المجلس" موبخا المتحدث فقط ومُعرِّضا بإدارة المنتدى: لا تسيؤوا إلى الأحزاب الأخرى بهدف النكاية، وبدأ "يتفاصح"، فقاطعه شخصان من الحزب الحاكم بأن الفضيحة صحيحة أولا، وثانيا لا حجر على حرية الرأي، فانتفض الأستاذ الدكتور وقاطع الحضور إلى المنتدى، ثم انبرى دكتور آخر ممتعضا أنه "لا يجوز أن يخسر المنتدى هذه القامات!".

الأحزاب العلمانية والليبرالية واليسارية افتضحت وهتكت أقنعتها الأيديولوجية رفضا للديمقراطية لأنها لم توصلها إلى الكرسي، فهل يرجى من هؤلاء بناء للأجيال؟

الخلاصة: لا غرابة إذا وجدنا أكاديميين يلعقون نعال المليشيا الإرهابية الانقلابية، وآخرين لم يجرؤوا على إدانة الزعيم المفسد الخائن للوطن حتى اللحظة.. متى يستوي الظل والعود أعوج؟

نلتقي بعونه سبحانه مع الحلقة الرابعة "هدم الصنمية".