السبت 20-04-2024 14:30:18 م : 11 - شوال - 1445 هـ
آخر الاخبار

الصنمية الثقافية المعاصرة الحلقة (2): بذور الصنمية المعاصرة

السبت 23 يناير-كانون الثاني 2021 الساعة 04 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي

 


استعرضنا بعض القيم إنسانيا وحضاريا، ورأينا كيف ترسخت بفضل قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بوظيفته التي حددها القرآن المتمثلة في تلاوة الآيات، والتزكية، وتعليم الكتاب والحكمة، وعليه فلا غرابة إذا رأينا قيم القرآن تتجسد في مقاصد تصرفاته صلى الله عليه وسلم عقديا وعمليا في واقع جيل الصحابة والتابعين، كما أسلفنا في الحلقة (1).

على أننا نلاحظ الحكمة في تصرفات الرسول حيث نجده صلى الله عليه وسلم ركّز على البناء، مكتفيا بما شرعه القرآن في نقد قيم الجاهلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشغل بمهاجمة قيم الجاهلية إلا في حدود مناسبات قليلة.

وكأنّه صلى الله عليه وسلم يحثنا على بناء القيم الإيجابية فقط، وإغفال الحديث حول القيم السلبية إذ بإغفالها سيلحقها الضمور والتلاشي، وبمهاجمتها يعني استفزازا وإحياء لها سيما في مجتمع تشرب العصبية قرونا طويلة. 

 

بذور جينية:

الفيلسوف الهندي المسلم محمد إقبال، رحمه الله، قال إن التشريعات العملية إنسانيا وحضاريا ظلت جنينية ولم يكتب لها النمو والتكامل، نظرا لقِصر المدة الزمنية أيام حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والعهد الراشدي.

ذلك أننا لو افترضنا أن هذا التشريع الإنساني الحضاري المشرق استمر 100 عام فأكثر، لا شك أن التجربة ستكون ثرية وخصبة من خلال ظهور المستجدات في مجالات الحياة تربية وممارسة. 

 

صنمية بلباس ديني: 

المتغيرات السياسية، مواقف وتصرفات، عالجت إشكالات السياق الظرفي، وبمرور الوقت تحولت تلكم المعالجات إلى بذور تشريعية تؤسس لمنهج تأصيلي في مجال السنن الحاكمة للاجتماع، مثلاً، تنازل الحسن بن علي لمعاوية عام 40 هجرية، فقد كان التنازل آنذاك له مبرراته السياقية، سيما وجرح حربَيْ الجمل وصفين ما زال حيا حاضرا في وجدان الفضاء المجتمعي عموديا وأفقيا، فجاء التنازل حقنا للدماء، فاتجه الخطاب الديني مشيدا بموقف الحسن، غير أن هذه الإشادة مثّلت بذرة تشريعية مغايرة لما كان عليه العصر النبوي والراشدي. 

ولم يمر سوى عقدين من الزمن حتى تحولت شتلة صغيرة تحمل بذور الصنمية، كيف لا والفقه السياسي اعتبر تنازل الحسن إحدى وسائل إقامة الشرعيه السياسية، معللا بذلك تحقيق مصلحة حقن الدماء، وعليه، بما أن تنازل الخليفة الحسن منح الشرعية السياسية لمعاوية، فإن الخليفة معاوية يحق له تعيين ولي عهد لأن العلة قائمة وهي مصلحة حقن دماء المسلمين. 

 

إزجاء الفراغ التشريعي: 

بطبيعة الحال إن تنازل الحسن لم يكن محل رضا الجميع سيما قادة جيش الحسن وغيرهم، بغض النظر عن دوافع الرفض وخلفياته، فكذلك موقف معاوية في ولاية العهد وتوريث ولده لاقى رفضا يصف التوريث بالكسروية والهرقلية، أي أنها قيم منافية لتعاليم الإسلام.

هنا حضر العقل الفقهي ولكن بحجة إضافية تملأ الفراغ الفكري وبتعليل فلسفي ديني تشريعي، هو حديث منسوب للنبي صلى الله عليه وسلم هدفه ترجيح كفة التوريث دينيا من جهة، وإسكات المعارضين من جهة ثانية بنسبة حيث نص الحديث أن الأئمة من قريش. 

فالحسن بن علي قرشي تنازل لقرشي، ومعاوية نقلها إلى البيت القرشي. لم يكتف فقه البلاط بما سبق وإنما عززه بأنه تشريع متبع مارسه الراشدون وبحضرة الصحابة، فتم نسبة الحديث الآنف إلى الصديق أنه قال يوم بيعة السقيفة، بل وأن الصديق عهد بالخلافه لعمر، ولا مانع أبدا طالما والحكم أصبح حقا إلهيّاً لقريش. 

 

تبديل وتشريع: 

حديث الأئمة من قريش وتلفيق قصة عهد الصديق لعمر، وتنازل الحسن، كان تشريعا جديدا ابتكرته الحاجة السياسية وظروفها، ولو أن التشريع الناشئ وقف هنا، لهان الأمر، وسيأتي يوم تعود المياه إلى مجاريها.

لكن القاصمة هي غض الطرف إزاء مقاصد القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم المجسدة للسنن الحاكمة للاجتماع (دستور المدينة نموذجا)، ومواقف الراشدين المتأسية بمقاصد الشرع. 

 

التأصيل الأخطر: 

كل التصرفات السابقة وجدت ذاتها إزاء تشريعات القرآن المجسدة بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، السنة الثابتة، فماذا حصل؟ برزت بوادر تأصيل على استحياء مفادها أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ليست حجة، وإنما الحجة هي أقواله، حسنا، وما هو الدليل؟

الجواب: أنه صلى الله عليه وسلم تزوج تسعا، وهذا فعله، فهل نتأسّى به؟ أشهد أن هذا الاستدلال جمع بين المغالطة الفقهية والإرهاب الفكري في آن، غير أن هذا الدفن للسنة العملية ظل داخل أروقة القصر، وإذا جاء معترض فالجواب هو: الأئمة من قريش. 

والحسن سليل النبوة أسوة في فهم وفقه سنة جده صلى الله عليه وسلم، ومصلحة حقن دماء المسلمين مقدمة على الشورى والشرعية السياسية، وأيضا وحدة الأمة بعد انقسام جهوي كوفي شامي... إلخ. 

النتيجة الأولى: فلا مقاصد التشريع حاضرة ولا وحدة الأمة قامت وإنما انقلابات وحروب شتى، وفوق ذلك تأصيل تشريعي يمهد لنشوء الصنمية وتحصينها ولكن بلباس ديني تشريعي محروس بنوعين من الإرهاب الفكري العقدي شعاره حقن الدماء مقدم، والنوع الثاني من الإرهاب هو سيف السياسة. 
 
النتيجة الثانية: الاستهانة بدم المعترض، حيث لا نستغرب إذا وجدنا التاريخ قد سجل قولا لأحد الخلفاء مفاده: من قال لي اتق الله ضربت عنقه. نعم، لا غرابة، كيف لا، والحكم حق قريش والقيدان التشريعيان، القرآني والسنة العملية، أصبحا غير ملزمين. إذن، الصنمية الهرقلية القيصرية حلت داخل الفكر الإسلامي باسم الإسلام. 

 

العباسيون والصنمية: 

استند الأمويون إلى حديث الأئمة من قريش، والعباسيون يستندون سنة قولية تدعم حقهم في الحكم من ذلك: 
1- الخلافة في ولدك يا عباس.
2- المهدي من ولدك يا عباس. 
3- النبوة في ولدك يا عباس. 
4- الخلفاء من ولدك يا عباس، ويتصدرهم ثلاثة: أبو العباس السفاح، وأبو جعفر المنصور، والهادي بن أبي جعفر. 

فإذا جاء من يقول لا صحة لهذا، الجواب جاهز وهو: العباسيون ورثوا الملك والنبوة بالعصبية، لأن العباس عصبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن لم يقتنع فالسيف جاهز. 

 

البطنان والصنمية: 

فاطمة ورثت الحكم، وبالتالي فالحق الإلهي لأولادها (البطنين). لم يخل هذا الاستدلال من سخرية لاذعة وهي أن المرأة لا شأن لها بالملك. 

الجواب: يستند أولاد فاطمة إلى إرث الملك من أبيها أولا، وإلى السنة القولية التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الغدير.

 

الخلاصة: 
أ- تم دفن التشريع المنزل بتشريع مبدل.
ب- انتقل الفكر الإسلامي من الأصول الأولى المعصومة المؤسسة للمعرفة، إلى منهجية تأسيس للمعرفة، انطلقت من واقع رازح تحت العصبية السياسية مدعوما بروايات مصادمة لنصوص القرآن ومقاصده، وللسنة العملية. 
ج- ازدواجية منهجية إلى حد التناقض.

ازدواجية تقول إن السنة العملية مفسرة للقرآن، وهذا الكلام سليم، فالشعائر التعبدية كلها بينتها السنة العملية بلا شك، وعليه، فالرفض للسنة النبوية العملية قد يؤدي إلى الكفر. 

بالمقابل، نجد هذه المنهجية تقول إن السنة النبوية العملية في مجال السنن الحاكمة للاجتماع السياسي، كالشرعية السياسية القائمة على الشورى والدستور والبيعة والشورى التنفيذية والقيود الواردة علي السلطة، وحرية المعارضة (النفاق نموذجا)، والمواطنة المتساوية، دستور المدينة للجميع، يهود ومشركين وأوس وخزرج ومهاجرين مختلفي الأعراق يحتضنهم دستور واحد، وإماتة العصبية "إنها منتنة"، والنهي عن التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب وصفهما الرسول أنهما جاهلية.

باختصار، ما يحصن المجتمع من تغول السلطات تم نسفه باسم المنهجية المؤسسة للمعرفة والتي نصت أن "السنة العملية غير ملزمة"، بل وليست تشريعا، فقط السنة القولية هي التشريع الملزم، ونسجت الأقوال والآراء انتصارا لهذا التفريق بين مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

النتائج:

1- انقلابات قبلية في ظاهرها ولكنها في الحقيقة باطنية شيعية فارسية، ذلك أن الإقطاعية الفارسية أتقنت التخطيط فكان: 
- الانقلاب الرسي في اليمن عام 284 هجرية. 
- البويهي الشيعي الفارسي عام 334 هجرية ولكن باسم الزيدية. 
- العبيدية في المغرب العربي. 
- الفاطمية في مصر. 
- الحمدانية في حلب والموصل. 
- القرامطة في البحرين. 
وكذلك الصليحيون، والأيوبيون، والمماليك، ودويلات كثيرة، ومثلها في الأندلس. 

العجيب الغريب أن معظم هذه الدويلات ادعت أنها تنتسب إلى الفاطمية والعلوية... إلخ. 

2 - تشظي المجتمع التسلامي إلى فرق فكرية ومذهبية، بل وصل التشظي في إطار الطائفة الشيعية إلى 12 فرقة ومذهبا، وكذلك داخل الطائفة السنية، وطائفة التصوف الفلسفي في إطار طائفة السنة، وكل يدعي أنه متأسٍّ وملتزم بالكتاب والسنة.

3- الأكثر سوءا هو أن كل هذه الفرق والمذاهب والنّحل، عقائدها كلها تصب في تحصين الطغيان والفجور السياسي وتقديس الظلمة.

 

متلازمة الصنمية الرسية: 

وصل الرسي إلى اليمن واختار صعدة مقرا لدعوته السلالية وعزف على أخطر وتر يلامس الوجدان العقدي في الوسط القبلي الذي يجهل كثيرا من أمور الشريعة، ولكنه وجدان مفعم بحب النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغل الرسي ذلك الوجدان ولم يكتفِ، بل فتح شهية الفيد للقبائل مؤكدا أنه سيغزو بها مركز الدولة العباسية (بغداد). 


   
متلازمة مذهب الرسية: 

من يطالع كتاب "الأحكام" للرسي يجد أن كل معتقدات الرسي السياسية وانحرافاته الفكرية والعقدية قد ألصقها بالرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يضع سؤالا، ثم يقدم الجواب مصدّراً بـ"قال جدي"، ودور الرسي فقط هو إقامة شريعة آل البيت، معلنا شروط الإمامة ذات الحق الإلهي أنها 14 شرطا، الأول، أن يكون من البطنين. والثاني، أن يخرج الإمام بالسيف يقتل من لم يبايعه، ونص أن إقامة الحاكم تعتبر من أصول الدين.

هذا المذهب الغريب تمخض عنه متلازمة عقدية خطيرة.
1- ادعاء الحق الإلهي في الحكم. 
2- العصمة لحكام البطنين. 
3- النبوة ممتدة في البطنين. 
4- تكفير الصحابة.
5- كفر من خالف هذا المذهب.  
6- قتل من لم يعتقد هذا الكلام. 
7- قتل من لم يبايع.
باختصار، أحكمك أو أقتلك. 

وقد استقدم جيشا من الطبريين لتخريب بيوت المخالفين، ونهب ممتلكاتهم وحرق مزاعهم وتدمير مصادر المياه (الآبار، حواجز مياه، صهاريج)، إلى جانب ضرب قبيلة بأخرى، ومحاربة الدويلات المجاورة له.

سارت فروع الرسية عبر التاريخ على هذه الفوضى، وتم نهب مدينة صنعاء مرارا وبقية المناطق اليمنية، كما ذكر ذلك مؤرخو بلاط الرسيين، قرابة 1100 عام.

كرست السلالة في اليمن فوضى دموية وإفسادا وإهلاكا للحرث والنسل، وكرست عزلة المجتمع اليمني، ولم تكتفِ بل كرست تمزيق النسيج المجتمعي على مستوى القبيلة والعشيرة. 

كما كرست أعرافا قبلية جائرة جدا كسبا لولاء القبائل، ومن ذلك قتيل بني فلان يساوي عشرات من القبائل الأخرى، وكرست حرمان النساء من الميراث. 

وعليه، نجد الصنمية بأنواعها قد تكرست في كل اتجاه، والسبب يعود إلى الانحراف المبكر المتمثل في الصراع على الكرسي بين أبناء العم، والذي تحول إلى عقيدة راسخة مستندة إلى روايات مكذوبة مصطنعة مخالفة للقرآن ومقاصد الشريعة، جاعلة من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه متعصب لقبيلته التي طردته وآذته طوال أيام دعوته وإقامة دولة الإسلام، وحاشاه صلى الله عليه وسلم.

ضاع العرف القرآني (العدل، المساواة، ومحاصرة الطغيان)، وظهر تشريع مستأنف يبني الصنمية ويحصن الطغيان ويكرس الطبقية والكهنوتية.
 
نلتقي بعونه سبحانه مع مظاهر الصنمية المعاصرة.

----------------------------


* تذييل: 

فات الكاتب في الحلقة السابقة نقطتين بارزتين تعكسان تلاشي الصنمية أفقيا على المستوى الاجتماعي.

القيمة الأولى: 
القرآن حسم وبقوة قضية الصنمية القبلية والعشائرية التي ألغت شخصية الفرد ليكون مع العرف الأعوج ولا قيمة لرأيه، فقرر القرآن "لا إكراه في الدين..."، وهذا يعني أن الإنسان مكرم وله خياراته في أخطر القضايا وهي الدين فما بالك في المجالات الأخرى.

 

القيمة الثانية: 
هذه القيمة ثمرة للقيمة الأولى: أصبح الكثير من حملة الشريعة هم من الرقيق ومنهم: 
- طاووس اليماني
- عطاء بن أبي رباح. 
- نافع مولى بن عمر. 
- الحسن البصري. 
- عكرمة. 
- ربيعة الراي شيخ مالك. 
- أبو حنيفة الفقيه العملاق أبوه كان رقيقا.

كلمات دالّة

#اليمن #الفكر