الثلاثاء 19-03-2024 13:22:55 م : 9 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

الصنمية الثقافية المعاصرة.. أسبابها، مظاهرها، خيارات المواجهة

الأحد 17 يناير-كانون الثاني 2021 الساعة 09 مساءً / الإصلاح نت – خاص / عبد العزيز العسالي

 

الحلقة (1): الإسلام والصنمية وجها لوجه
 
مستهل:

الإمبراطوريتان فارس والروم، والقبيلتان الوظيفيتان التابعتان، الغساسنة والمناذرة، كانت نظرتها إلى عرب الجزيرة دونية، كونهم أميون متخلفون. بالمقابل، صوّر القرآن في أكثر من آية هواجس النفسية العربية وأحلامها في الحصول على منهج ينظم حياتهم وينهض بهم حضاريا كما في هذا النص: "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم ما زادهم إلا نفورا • استكبارا في الأرض...".

هذا النفور والاستكبار العربي في وجه حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم يعني أن الطبقة القرشية كانت تريد مقابلة الاستعلاء الفارسي الرومي باستعلاء عربي، وهذا مرفوض في رسالة الإسلام، كونه رسالة رحمة للعالمين، رسالة المساواة بين سائر الخلق تحت عرش خالقهم بلا استثناء، نجد هذه المساواة ماثلة في المحور التالي: 

ثانيا: مركزية عقيدة التوحيد

هذه المركزية نصت عليها آيات القرآن بكثرة، محورها عبادة الله بمفهومها الشامل للحياتين الدنيا والآخرة. قال تعالى: "وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون". هو المعبود وكل من تحت عرشه عباد له، وهو صاحب الكبرياء في السموات والأرض وليس لأحد سواه. 

ثالثا: تجليات عقيدة التوحيد

إذا أمعنا النظر في نصوص القرآن سنجد أن مركزية عقيدة التوحيد لها أبعاد ومعالم أبرزها: 

- إرادة الله التكريمية للإنسان. 
- إرادة الله التشريعية لحماية مصلحة الإنسان. 
- إرادة الله الخُلْقية التزكوية. 
- إرادة الله التسخيرية للسنن الكونية خدمة للإنسان والحضارة. 

رابعا: تحصين المجتمع

هذه التجليات لم تكن قواعد نظرية ذهنية مجردة، وإنما تحولت من خلال مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قواعد ومبادئ إجرائية وتنفيذية قام على أسسها المجتمع الإسلامي.

كما أن مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم حولتها إلى شبكة شروط ذات فاعلية فريدة قادت إلى قيام حضارة إسلامية عدة قرون، شملت هذه القواعد الإجرائية مجالات مختلفة وذلك على النحو التالي: 

- إحلال عقيدة التوحيد بدلا عن صنمية الشرك والوثنية حجرا أو بشرا.
- إحلال العلم بدلا من الجهل والظن والوهم والهوى والخرافة. 
- الدولة بدلا من القبيلة.
- الأمة بدلا عن العشيرة. 
- التشريع المقدس بدلا عن الآبائية. 
- العرف القرآني المستند إلى القيم الفطرية النقية بدلا عن العرف القبلي الأعوج. 
- الإعمار بدلا عن التخريب والافساد. 
- بناء البشر، أي إيجاد المؤمن المحب للنظام انطلاقا من التزامه بالقيم الأخلاقية المتجذرة في أعماق العقيدة، بدلا عن الشخص البدوي المتفلت المتسيب المحب للفوضى وكراهية النظام. 

خامسا: تجسيد سنن الاجتماع 

- هذه المبادئ والقيم والشروط الإنسانية والحضارية، وغيرها مما سنوضحها لاحقا، نلاحظ أن مقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم قد جسدتها بقوة ووضوح على النحو التالي: 

- الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة من خلال بيعة سياسية حسب ذلك السياق التاريخي. 

 

الطريقة العميلة في صَهر الصنمية: 

- كتابة دستور مرجعي لكل سكان المدينة، فالقرآن مرجع المؤمنين به والدستور مرجع للسكان جميعا، اليهود بمختلف بطونهم، مسلمون مهاجرون،
أنصار، أوس، خزرج، ومشركون من الأوس والخزرج.

هنا تحصن المجتمع من التمزق القبلي والعشائري، مع عدم المساس بثقافة الجميع التي اختاروها واستقامت عليها مصلحتهم العامة دون الإضرار بالغير.

سادسا: التشريع القولي

مقاصد القرآن تجاه قيمة المساواة واضحة منطوقا ومفهوما، ومن ذلك قوله سبحانه: "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى..." إلخ الآية.
"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".

ويسجّل القرآن حملة شعواء أبدية كونية ضد العلماء، حملة الشريعة والمرشدين، بأنهم كسائر الناس، ناعيا على أهل الكتاب قائلا: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله".

لم يكتفِ القرآن بهذا بل أضاف أنه لا يجوز التقديس لأحد ولو كان نبيا، فقال: "والمسيح ابن مريم" أيضا لا يجوز تقديسه.

 

سنة الرسول القولية: 

- "لا تطروني كما أطرت بنو إسرائيل أنبياءهم".

- "أظلم الملوك من تسمى بـ"شاهنشاه" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

- الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع تجارا مسلمين قدموا من الشام وأرادوا أن يسجدوا للرسول معللين أنه أحق بالتعظيم من رجال الروم قائلا: "لا يجوز السجود إلا لله". 

- لا يجوز للرجل أن يقول للخادم عبدي إنما غلامي وخادمي. 

- رأى شخصا يرتجف إكبارا لمقامه صلى الله عليه وسلم فقال له: "هوّن على نفسك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد". 

- سحق الصنمية الاجتماعية، حيث قام بتزويج خادمه زيد بن حارثة بزينب بنت صفية بنت عبد المطلب.
 
- يدخل يوم فتح مكة مطأطئا رأسه تواضعا حتى كاد يلامس سنام البعير.

 

ترسيخ المبدئية:

- لم يكتف القرآن بما سبق وإنما تتبع أشكالا أخرى من الصنمية، الغرور بالكثرة، أنه خلق حاضر في النفس البشرية لكنه راسخ في النفسية العربية الجاهلية القبلية، قائلا: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم..." إلخ، فالمبدئية هي وقود الصمود والثبات والنصر.

تلكم هي نبذة موجزة جدا حول مقاصد القرآن ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء الصنمية بأنواعها، يقابلها تحصين المجتمع.
   
الصحابة يجسدون وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم:

هذه نظرات سريعة تضعنا في غمار الثقافة الإسلامية التي تشربها جيل الصحابة بل وتشبعوا بها من خلال الوظيفة التعليمية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تعليم الكتاب والحكمة، لقد تجلت تعاليم الحكمة في التربية النبوية بأرقى صورها عند الصحابة سنشير إلى بعضها: 

- ربعي بن عامر رضي الله عنه مجيبا على سؤال رستم الفارسي: لماذا جئتم إلينا معاشر العرب؟ جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

هكذا شمل أهداف الرسالة بإيجاز مما يدل على نضوج ثقافي تشريعي إنساني حضاري راسخ.

- الفاروق يهدم صنمية الإقطاع في فارس والروم.

هذا الرجل الملهم أدرك أبعاد رسالة الرحمة للعالمين فقرر تعميم قيمة الرحمة على كل من وصلت إليه دولة الإسلام، فقد سجل الفقه الإسلامي والتاريخ قرار الفاروق بتمليك الأرض المفتوحة للعاملين فيها وانهم أحرار لا سلطان للإقطاعية عليهم بعد الفتح الإسلامي، وأن هذا القرار هدف إسلامي، سواء أسلموا أم لم يسلموا، فالأرض ملكهم وهم أحرار في ظل رسالة الرحمة للعالمين.

لقد تهاوت الإمبراطوريتان خلال عقد وثلث من الزمن والفضل يعود إلى العقلية السياسية والفكرية والثقافية الفذة عند الصحابة وفي 
طليعتهم باني الدولة الإسلامية الفاروق رضي الله عنه.

- متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

هكذا أطلقها الفاروق مدوية عبر التاريخ يوم الوقوف بعرفات، كسر بها بقايا الصنمية القابعة في اللاوعي عربيا وقبطيا.

- قرار عُمَري أيضا: 

من تزوج جارية وأنجبت له فإنها تصبح حرة فور إنجابها ولا يجوز استرقاقها ولا بيعها أبدا. 

- أصابت امرأة: 

نحن أمام مشروع قرار أراد الفاروق أن يقدمه إلى مجلس الشورى بشأن تخفيض المهور، ولكن هيهات، لقد تصدت لمشروع القرار امرأة كانت قد فهمت ظاهر النص أنه يجوز المهر وإن كان قنطارا من ذهب، لا يهمنا حجم القنطار بقدر ما يهمنا حق الاعتراض على السلطة وكسر الصنمية ولو كان الحاكم عمر الفاروق.
 
هنا يقف المستشرق الألماني المعاصر أفريتش شتيبات ويقول: "عمر بن الخطاب الرجل الذي بنى الدولة الإسلامية حقا، أي أنه بنى دولة مؤسسات".

- عمر يعين الشفّاء نيابة تموين وتجارة (رقابة السوق). هل غاب الرجال؟ لا، وإنما التخصص والمهارة، وهكذا تتلاشى الصنمية وتذوب.

 

مجتمع مدني مبكر: 

القول الثقيل يعني أن القرآن متعالٍ، ولا متناهٍ، وأنه كوني، وعليه، فلا غرابة أن تكون الثقافة المستمدة من قيم القول الثقيل قد نضجت بهذه الصورة المشرقة فتسجل بذورا لقيام مجتمع مدني بعيدا عن صنمية القبيلة والعشيرة، ذلك أنه وصل الخبر إلى الفاروق أن شخصا قتل خطأ في أرض مصر فقال: الدية في ديوان الجند ولا شأن للعاقلة لأنها لم تعد مستفيدة من الرجل انطلاقا من قاعدة الغرم بالغنم.

- الفقيه أبو حنيفة، رحمه الله، هو أول فقهاء المذاهب حيث أدرك 12 من التابعين مما يعني أن تقعيده الفقهي كان أقرب إلى الروح الإسلامية كثيرا، ومن ذلك أنه أفتى بأن الشخص الذي ختن طفلا ومات فقال أبو حنيفة: الدية على أبناء مهنته، لأن الكوفة يومها قد ذابت فيها صنمية القبيلة والعشيرة.

 

شهادة فوكوياما: 

في كتابه الموسوعي "النظام السياسي عبر التاريخ"، نجد الكاتب فوكوياما الياباني الأصل المقيم في أمريكا يقرر شهادته عن نبي الإسلام محمد أنه جاء بثقافة جديدة أخرجت السياسة والحكم من إطارها المتوارث عبر آلاف السنين في أطر سلالية خاصة، فقد نقلها الإسلام نقلة هائلة، مستشهدا بقبائل الأنباط الذين كانوا منبوذين في ظل الإقطاعية الفارسية وحررهم عُمَر فأصبحوا قادة ووزراء وتجارا وجلساء بلاط، إلى غير ذلك، مضيفا أن الأتراك وغيرهم بل والمماليك أصبحوا حكاما ولم يأنف العرب والمسلمون من حكم أعراق وجنسيات ومماليك، كونهم يحكمون بشريعة الإسلام، هل فوكوياما أدرك دور الثقافة الإسلامية في تكسير الصنمية؟

تلكم هي مؤشرات سريعة حول هدم الإسلام للصنمية، والسؤال: كيف عادت الصنمية إلينا إليوم؟ هذا هو موضوع الحلقة القادمة.

كلمات دالّة

#اليمن