الخميس 28-03-2024 17:48:36 م : 18 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار

مجلة الحكمة اليمانية..

سطور من تاريخ الحركة الوطنية

السبت 06 مايو 2017 الساعة 07 مساءً / التجمع اليمني للاصلاح - خاص

ثابت الأحمدي

الحلقة (1-2)


كانت مجلة "الحكمة" هي المجلة الوحيدة التي تصدر في نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات من القرن العشرين، لأكثر من سبب، منها أنها تعتمد في طباعتها على المطبعة الوحيدة المتهالكة التي خلفها الأتراك للإمام يحيى في صنعاء وكان يعتمد عليها في طباعة محرراته الرسمية، وصحيفته الخاصة "الإيمان"، ولا تستخدم إلا بإذنه هو شخصيا.


وقد صدر العدد الأول من مجلة الحكمة في ديسمبر 1938م، وصدر العدد الأخير في فبراير/ مارس 1941م.


كانت المجلة عمليا برئاسة السيف عبدالله، نجل الإمام يحيى، ووزير المعارف يومها، وشكليا برئاسة أحمد عبدالوهاب الوريث الذي يسم نفسه بذلك؛ بل لقد أشار في أول مقاله في العدد الأول بالقول: "وقد اقترح حضرة الرئيس حفظه الله" يقصد السيف عبدالله..!


وتناولت المجلة خلال مسيرتها القصيرة عدة اتجاهات، لأنها بحكم طبيعتها "علمية ـ جامعة" وربما لكونها الوحيدة فقد اضطرت أن تكون كذلك، مع مراعاة طبيعة المرحلة والظروف المحيطة بها آنذاك.


وما يهمنا هنا الإشارة إلى سلسلة المقالات المهمة لرئيسها أحمد عبدالوهاب الوريث بعنوان "الإصلاح" حيث نشر تسع حلقات في حياته تحت هذا العنوان، ونشرت له الحلقة العاشرة بعد وفاته، حيث وجدت بين أوراقه الأخيرة، إذ تبنى صديقه وزميله في العمل أحمد المطاع مواصلة الدور؛ بل لقد واصل مقالاته هو بنفس الاسم، في ثمان حلقات أخرى، وبالتالي يكون قد بلغ عدد هذه السلسلة ثماني عشرة مقالة.


على أية حال.. أراد السيف عبدالله تقليد الآخرين ومجاراتهم وخاصة مصر، بمجلة تصدر من بلده المتهم بالانغلاق والجمود والتخلف، فاستطاع إقناع والده على مضض بذلك، رغم تحسس الإمام من خطر مشروع كهذا، واعتباره مظهرا من مظاهر "العصرنة" التي تخالف الإسلام..!! ولولا محاولة السيف عبدالله إقناع والده بذلك لما استطاع أحد إقناعه، وربما الاقتراب منه لطرح فكرة كهذه؛ لاسيما وهو أثير والده وأقربهم إلى نفسه يومها، إضافة لكونه وزير المعارف والذي تسنى له زيارة أكثر من دولة، ومعرفة طبيعة الحياة فيها، فأذن له والده الإمام الذي لم ينس أن يوصيه بألا يترك الحيل على الغارب، وأن تكون المجلة تحت إشراف المباشر.


من ناحية ثانية أراد الوريث ورفاقه من المثقفين المستنيرين فتح نافذة للتنوير وكوة للضوء تحت أي مسمى، وبأي ثمن، وكانت كذلك بحق، وقد طرقت مواضيع مهمة، وشكلت مدرسة صحفية جادة ظلت مُلهمة لمن بعدهم من الجيل الثاني للثوار، بل لقد تبنى اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين "الموحد" في السبعينيات تسمية مجلته الصادر عنه من عدن بهذا الاسم "الحكمة" تقديرا لهذا الاسم وللدور النضالي العريق للمجلة ورجالاتها. وخلال هذه الفترة القصيرة تمت الكتابة فيها إلى جانب الأدب والأخلاق والشعر أيضا عن الزراعة والاقتصاد والإدارة والصحة؛ بل والرياضة، وتحديثها بما يلائم المرحلة، ناهيك عن سلسلة مقالات "الإصلاح"، سواء للوريث أو للمطاع من بعده، وما الإصلاح من وجهة نظر الإمام إلا التخريب والتمرد والخروج..!

 

كل يغني على ليلاه!
وقد علل البعض موافقة الإمام يحيى على تأسيس المجلة لجمع كوكبة المثقفين "العصريين" ولمعرفة ما يدور في رؤوسهم من خلالها، وأيضا لتقريب الخطيب المصقع والمثقف المستنير أحمد عبدالوهاب الوريث من المقام الإمامي، واستقدامه من مدينة ذمار، للعمل في وزارة المعارف لتقييد حركته ومعرفته عن قرب، كما أرد السيف عبدالله من ناحيته أيضا الاتصال أكثر بأدباء ومثقفي صنعاء ونخبتها المؤثرة، كما استأثر أخوه أحمد بالاتصال بمثقفي وأدباء تعز من خلال عمله هناك نائبا للإمام في لواء تعز، وأيضا الظهور بمظهر التقدم والعصرية التي كان يسعى إليها، في الوقت الذي يريد المثقفون والأدباء هؤلاء تأسيس مشروع ثقافي، وفتح نافذة للضوء وللمعرفة، كما أسلفنا، وكل الثلاثة الأهداف على تشعباتها في نهايتها خدمت القضية الوطنية، وفتحت نافذة طريقا جديدا للاستنارة والتثقيف، وقد غنى كل منهم على ليلاه..!

 

المؤثرات الثقافية للمجلة وطاقمها
يعرف الجميع طبيعة الحالة التي كان يعيشها الشعب في تلك الفترة، والجمود والتخلف الذي كان يلف الحياة العامة، كسياسة ممنهجة من قبل الإمام، ومع هذا فقد كان للكتب التي تصل إلى اليمن منذ العشرينيات دور كبير في التثقيف والتنوير، مثل كتب طه حسين والعقاد والجارم وكتاب الكواكبي طبائع الاستبداد، وأيضا الدوريات العامة كمجلة المنار التي كان يرأسها الشيخ محمد عبده، ومن بعده تلميذه رشيد رضا، ثم مجلة الرسالة التي رأسها أحمد حسن الزيات، وكلتاهما مصريتان بطبيعة الحال، ومجلة الحكمة اللبنانية، إضافة إلى بعض المطبوعات التي تصل اليمن من خلال رحلات الحجيج السنوية من الحجاز، وأيضا عودة البعثة التعليمية الأولى من العراق التي تبناها السيف عبدالله.. كل هذه وغيرها شكلت رافدا ثقافيا وتنويريا عصريا صبغ ثقافة صنعاء بصبغة جديدة، وإن في حدها الأدنى، وكسر طبيعة الجمود السائدة آنذاك.


فكانت ثقافة المجلة خليطا من هذا كله. وهذا ما ينعكس واضحا في كلمة الوريث نفسه في العدد الأول من المجلة، وفي مقالته الافتتاحية التي دعا فيها إلى مبدأ الإصلاح الديني وتحقيق العدالة، فقال: "ذلك المبدأ الذي قوامه الإصلاح الديني والإهابة بالمسلمين إلى أسباب سعادتهم، وعوامل نهوضهم ومجدهم، ودعوتهم إلى جمع الكلمة ولم الشعث، ورأب الصدع وتنظيم الصفوف، وتحذيرهم من التمادي في خوض بحار التأخر، وألا يُغال في بيداء الخمول والاستسلام والقبوع في زوايا الكسل والبطالة والنوم على بساط الذلة والمهانة، والرضا بالعيش الخانع والحياة المرذولة، وحفزهم إلى تحطيم قيود الجهل، ويمزيق غشاوة الضلال وتبديد حجب الظلام..."إلخ.


وعقب كل صدور عدد منها كانت أشبه ما تكون بهدية شهرية لدى مثقفي صنعاء الذين يعكفون على قراءتها أياما بصورة جماعية في دواوين القات، وفي مجالسهم الخاصة، ثم يناقشون مضامين هذه المقالات، ولعل أهم ما كان يتم مناقشته هو المقالة شبه الرسمية فيها بعنوان "الإصلاح" التي اتسمت بقليل من الجرأة المغلفة بالأدب المقامي سواء للوريث أو للمطاع. فكانت هذه المقالات هي الشرارة الأولى والنبع الأصيل الذي تفجرت منه أحلام الجيل الشبابي المترقب والمتطلع للجديد، وأصبح مطلب الإصلاح جاريا على كل لسان يومها.


كان هؤلاء المصلحون على قدر عال من النباهة والذكاء حين جعلوا من السيف عبدالله مظلتهم وواجهتهم أمام نزق أبيه؛ لاسيما والسيف عبدالله ـ دون بقية كل إخوانه ـ يتسم بصبغة حداثية تجديدية؛ وكان أيضا المنافس القوي للسيف أحمد، والأقرب إلى قلب أبيه، كما أسلفنا، كما كان أقرب السيوف الأربعة عشر إلى المثقفين؛ ولهذا دفع حياته لاحقا في انقلاب 1955م مع أخيه العباس، وإن كان هذا التجديد في إطار المذهب والبيتية الإمامية.


ولعل صدق الروح الإصلاحية لدى هؤلاء المثقفين هي التي جعلت لتلك المقالات العلمية ذلك الحضور الشعبي لدى القراء، وشكلت الخميرة الأولى للروح الثورية التي تدفقت فيما بعد، ومنها تواصل النضال بالنضال، وتلاقحت الفكرة بالفكرة حتى تفجرت سورة الغضب الثوري في فبراير 1948م بالثورة الدستورية، فانقلاب 1955م وما تلاه من الحركات الأخرى التي تكللت جميعها بثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م المجيدة. فكانت مجلة الحكمة هي أولى شرارات النضال الذي انطلق تحت مسمى "الإصلاح" ثم تبلور في أدبيات الثوار رويدا رويدا حتى وصلت إلى الإعلان الثوري الصارخ. ولقد أصبح كل الوريث والمطاع وأحمد الحورش وعبدالله العزب وزيد عنان والقاضي عبدالواسع الواسعي ومحمد حسن الذاري فيما بعد رموزا في المدرسة الصحفية، كما كانوا ايضا رموزا في مدرسة النضال والمقاومة والثورية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظر في هذا: مجلة الحكمة اليمانية وحركة الإصلاح في اليمن، د. سيد مصطفى سالم، و علي أحمد أبو الرجال.