الثلاثاء 18-11-2025 03:30:28 ص : 27 - جمادي الأول - 1447 هـ
آخر الاخبار

تغييب الأعياد الوطنية.. إستراتيجية حوثية للقضاء على الجمهورية

الأربعاء 15 أكتوبر-تشرين الأول 2025 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت - خاص | عبد السلام الكاتب

 

منذ سيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء قبل عقد من الزمن، أخذت تسعى بخطى حثيثة إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي لليمنيين بما يتوافق مع أيديولوجيتها الطائفية ومشروعها السلالي، ولعل أبرز مظاهر هذا التوجه هو إلغاؤها المتعمّد للمناسبات الوطنية، وإحلال مناسبات طائفية وشعائرية بديلة، بهدف طمس الهوية الجمهورية، وإضعاف روح الانتماء الوطني لدى الأجيال الجديدة، فالثقافة التي جاءت بها المليشيا لا تقوم على فكرة الوطن الواحد، بل على مبدأ “الحق الإلهي” في الحكم، مما يجعلها في حالة عداء دائم مع كل ما يرمز للجمهورية والثورة والاستقلال.

تغييب الأعياد

ومنذ السنوات الأولى لانقلابها، ألغت المليشيا الحوثية كل مظاهر الاحتفال بعيد الثورة اليمنية في 26 سبتمبر 1962، وهو اليوم الذي أنهى الحكم الإمامي الذي تمثل المليشيا امتدادا له فكريًا وسياسيا، حيث كانت هذه الخطوة أكثر من مجرد تجاهل لمناسبة وطنية، فقد كانت إعلانًا صريحًا عن نية المليشيا إعادة اليمن إلى ما قبل الثورة.
ففي كل عام تمنع سلطات الحوثي المدارس والجامعات من إقامة أي فعالية تتعلق بثورة سبتمبر، وتوجه وسائل الإعلام الخاضعة لها بتجاهل المناسبة بالكامل، بل وصل الأمر إلى اعتقال معلمين وطلاب لمجرد رفع علم الجمهورية اليمنية، أو تشغيل الأناشيد الوطنية في إذاعات المدارس.
وقد اعتقلت المليشيا الانقلابية في سبتمبر من العام 2024 العشرات من المواطنين في محافظة إب بسبب بعض المظاهر الاحتفالية بعيد الثورة السبتمبرية، كما شنّت المليشيا حملة اختطافات واسعة في محافظة حجة في سبتمبر الماضي، حيث استهدفت عشرات المدنيين على خلفية استعدادهم للاحتفال بالذكرى الـ62 لثورة 26 سبتمبر، التي أطاحت بالحكم الإمامي، وأرست النظام الجمهوري.

ووفقاً لمصادر محلية، فقد نفذت عناصر حوثية -على متن دوريات عسكرية ومرافقة لمشرفين أمنيين- حملة مداهمات في أحياء ومناطق متفرقة بمدينة حجة ومديريات أخرى، وأسفرت عن اختطاف نحو 34 شخصاً من مختلف الأعمار، بينهم موظفون وناشطون إعلاميون ومغردون على منصات التواصل الاجتماعي، بتهمة رفع العلم اليمني أو التحضير لإقامة فعاليات احتفالية، مؤكدة أن الحملة لم تقتصر على الاعتقالات، بل شملت إزالة الأعلام اليمنية من واجهات المتاجر والأسواق وأسقف المنازل، في مشهد يعكس سعي المليشيا لفرض قيود صارمة على أي مظاهر وطنية مرتبطة بثورة 26 سبتمبر"، التي تُمثل رمزاً لمناهضة مشروعها الانقلابي، معتبرة ذلك “استفزازًا للهوية الإيمانية”، وفق تعبير المليشيا.

طمس الذاكرة الوطنية

ولم تكتفِ المليشيا بمنع الاحتفال بالمناسبات الوطنية، بل سعت لاستبدالها بمناسبات مذهبية خاصة بها، فبدلًا من الاحتفال بالأعياد الوطنية، تفرض احتفالات طقوسية بالمولد النبوي، وتعتبره “اليوم الأهم في تاريخ الأمة”. كما استحدثت مناسبات مثل “يوم الولاية” و”ذكرى الصرخة” و”يوم الشهيد”، وجعلتها أعيادًا رسمية تُعطل فيها المدارس والمؤسسات الحكومية، فيما تمر الأعياد الوطنية مرور الكرام دون أي ذكر أو احتفاء.
وقد سعت المليشيا إلى تجريم كل الأنشطة والمظاهر الاحتفالية بالأعياد الوطنية، وإلزام المواطنين بحضور مناسباتها بالقوة.
ففي يونيو 2024، شنت المليشيا الحوثية حملة اعتقالات واسعة طالت عشرات السكان بمن فيهم الموظفون الحكوميون في العاصمة اليمنية المختطفة صنعاء وريفها ومحافظات أخرى، وذلك على خلفية رفضهم المشاركة في احتفالات ما يسمى بـ"يوم الولاية"، وهي مناسبة سنوية تسعى المليشيا إلى تكريسها لتأكيد الأحقية المزعومة لعائلة عبد الملك الحوثي في حكم اليمنيين.
وتُشكل هذه الأجندة الطائفية والمذهبية، التي تتجاوز مجرد تغيير تقويم الاحتفالات، محاولة منظمة لإعادة هندسة الوعي الجمعي لدى اليمنيين.
وبحسب مراقبين فإن التركيز المكثف والمُمَوّل على مناسبات مثل "يوم الولاية" و "ذكرى الصرخة" يهدف إلى طمس الهوية الوطنية الجامعة واستبدالها بهوية مذهبية ضيقة تخدم المشروع السياسي للحوثيين.
وأضافوا أن هذا التحويل القسري للاحتفالات يُعمّق الانقسام المجتمعي، ويُحوّل المؤسسات الحكومية والتعليمية إلى أدوات دعاية قسرية، مما يُفاقم حالة الاستقطاب ويزيد من عزلة المليشيا عن غالبية الشعب اليمني الرافض لهذه التوجهات الطائفية التي تُمزق النسيج الاجتماعي للبلاد.

مكمن الخوف

ويواجه كل صوت يطالب بإحياء المناسبات الوطنية في مناطق سيطرة الحوثي بالقمع والاعتقال، ويتعرض أصحاب تلك الأصوات لمختلف الانتهاكات من قبل عناصر المليشيا الذين عادة ما يكونون في حالة استنفار قصوى في كل مناسبة وطنية.
وتسعى مليشيا الحوثي منذ سيطرتها على صنعاء إلى طمس الرموز الوطنية اليمنية وإلغاء المناسبات التي تمثل روح الجمهورية وثقافة الثورة، مثل 26 سبتمبر و14 أكتوبر و22 مايو، إذ إن هذا المنع لا يأتي عبثاً، بل يعكس خوف المليشيا من أي مظاهر للتجمهر الشعبي خارج سيطرتها، وتدرك المليشيا أن تلك المناسبات قادرة على جمع اليمنيين حول هوية واحدة تتجاوز انقساماتها المذهبية والمناطقية.
وبحسب أكاديمي يمني -فضل عدم ذكر اسمه- فإن السبب الأعمق هو "رغبة الحوثيين في استبدال المناسبات الوطنية بمناسباتهم الطائفية، لتكريس ولاء ديني وسلالي بديلاً عن الولاء للوطن، فبهذا النهج تعمل المليشيا على إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وإبعاد الأجيال الجديدة عن ثقافتها الثورية التي ارتبطت بالنضال ضد الاستبداد والإمامة والاحتلال".
كما أن تلك الأعياد الوطنية تذكّر اليمنيين بتاريخ من مقاومة الظلم والسلالية، وهو تاريخ يتناقض جذرياً مع مشروع الحوثي الذي يعيد إنتاج الإمامة بثوب جديد.
وأكد أن "منع الاحتفالات الوطنية ليس مجرد قرار إداري، بل خطوة مدروسة في معركة الذاكرة والهوية، تسعى الجماعة من خلالها إلى محو رموز الجمهورية واستبدالها بثقافة الخضوع والطاعة، حتى تضمن بقاءها دون منافسة من فكرة الوطن الحر والمواطن المتساوي".
ويرى الباحث السياسي نبيل البكيري أن “مليشيا الحوثي تنظر إلى المناسبات الوطنية بوصفها تهديدًا وجوديًا، لأنها تذكّر الناس بزمن الجمهورية الذي جاء لينهي الحكم الكهنوتي الذي تمجده المليشيا”.
أما الباحث عبد السلام محمد فيقول: “ما تفعله المليشيا من تغييب للذاكرة الوطنية يشبه ما فعله أئمة القرون الماضية حين حرموا على الناس الاحتفال بذكرى الثورة أو الاستقلال، لأن ذلك يهدد فكرة الاصطفاء السلالي”.

عبث مستمر

وتعتبر المناهج التعليمية واحدة من أخطر أدوات إلغاء الهوية الوطنية، وهو ما أدركته المليشيا منذ وقت مبكر. فمنذ عام 2016، أجرت المليشيا تعديلات واسعة على الكتب الدراسية، فحذفت منها كل ما يتعلق بثورتي سبتمبر وأكتوبر، واستبدلتها بسردية تمجّد من تصفهم بأئمة آل البيت وتُعلي من شأن “الولاية”.
وقد كشفت تقارير تربوية أن أكثر من 15 درسًا وطنياً حُذفت من مناهج التاريخ والتربية الوطنية، واستُبدلت بنصوص دينية ذات بعد سياسي، تصوّر “الثورة” الحقيقية بأنها ثورة الحسين في كربلاء، وتربط بينها وبين ما تسميه “المسيرة القرآنية” للحوثيين.
ويقول أحد المعلمين إن “الطلاب باتوا يتعلمون عن عاشوراء أكثر مما يتعلمون عن 26 سبتمبر، وعن ولاية علي أكثر مما يعرفون عن الجمهورية والوحدة اليمنية”.
ولم يقتصر الأمر على حذف الدروس الوطنية واستبدالها بنصوص مذهبية، بل امتد إلى تغيير صور الرموز التاريخية والعلماء والمناضلين الذين قادوا معارك التحرر ضد الاستبداد والاستعمار، واستبدالهم بصور قادة حوثيين أو رموز دينية من السلالة، كما تم إدخال مصطلحات جديدة مثل “أنصار الله” و“الولاية الإلهية” في مقررات التربية الإسلامية واللغة العربية، في محاولة لغرس أفكار المليشيا في وعي الأجيال منذ الصغر.
وتشير تقارير من معلمين في محافظات إب وذمار وصعدة إلى أن المناهج أصبحت أداة تعبئة فكرية ممنهجة، تُقدّم عبد الملك الحوثي بوصفه قائداً روحياً للأمة، وتُصور مخالفي المليشيا كـ"طغاة" أو "عملاء للخارج".
هذه التغييرات الواسعة حولت المدارس إلى ساحات تربية فكرية مغلقة، تهدف إلى إنتاج جيل يقدس السلالة ويجهل تاريخه الجمهوري، في أخطر عملية استهداف للوعي الوطني اليمني في العصر الحديث.
كما تعمل هذه المناهج على أدلجة المواد العلمية والإنسانية على حد سواء، حيث تُقدم قراءة أحادية للتاريخ، وتمحو رموز ومبادئ الجمهورية مثل المساواة والمواطنة، لتُرسخ بدلاً منها مفاهيم الطاعة المطلقة والحق الإلهي في الحكم، من شأن هذا التحول العميق أن يهدد بتخريج جيل لا يعرف عن تاريخ بلاده إلا ما ترويه المليشيا، مما يُضعف الانتماء للدولة الوطنية الموحدة ويُعزز الانقسام المجتمعي على أسس طائفية وسياسية جديدة.
وقد شملت التعديلات تغييراً في المصطلحات، حيث أصبح يُشار إلى الرؤساء السابقين للجمهورية والرموز الوطنية بـ"الطواغيت"، فيما يُرفع أئمة المليشيا إلى مصاف القادة الملهمين، في محاولة واضحة لقلب الموازين التاريخية والأخلاقية.

محاولات يائسة

وتعمل الوسائل الإعلامية الخاضعة للحوثيين على لعب دور كبير في إعادة تشكيل الذاكرة العامة، حيث تعمد قنوات مثل قناة “اليمن” و”سبأ” و”الإيمان” التابعة للمليشيا إلى التجاهل تمامًا لذكرى 26 سبتمبر و14 أكتوبر و22 مايو، فيما تخصص ساعات طويلة للبث المباشر لاحتفالات المولد النبوي وأيام “الولاية”.
وفي المقابل، تُهاجم هذه القنوات رموز الجمهورية وتصفهم بـ”الانقلابيين على الولاية الإلهية”، وتقدّم الإمام البدر، آخر أئمة الحكم الإمامي، بوصفه “ضحية المؤامرة الأمريكية البريطانية”. هذه السردية المعكوسة تمثل أخطر أشكال تزوير التاريخ.
ويعد الاستثمار الإعلامي المكثف للمليشيا الذراع الموازية والأكثر تأثيراً لعملية تجريف الهوية الوطنية التي بدأت في المناهج التعليمية، فبجانب القنوات الفضائية، تعمل شبكة واسعة من المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي المُدارة بعناية على ضخ هذه السردية المعكوسة بشكل يومي ومُركز، حيث إن هذه المنصات لا تكتفي بتجاهل الأعياد الوطنية فحسب، بل تُقدم تحليلات ودراسات مزيفة تهدف إلى شيطنة رموز الثورة وتقديمهم كخونة للوطن والدين، كما يتم استخدام الدراما والبرامج الوثائقية لتمجيد القادة الحاليين وربطهم بنسب الإمامة والزعامة التاريخية، مما يُنشئ تسلسلاً وهمياً للشرعية، يمتد عبر مئات السنين.
هذا الغزو الإعلامي الشامل، وخاصة عبر الإذاعات المحلية التي تصل إلى المناطق الريفية، تسعى المليشيا من خلاله وبكل حرص إلى أن تصل رسالة المليشيا إلى كل فرد، لا سيما فئة الشباب الذين باتوا يتلقون التاريخ والسياسة عبر عدسة أحادية ومُوجهة، ويهدف إلى خلق انفصال نفسي ومعرفي بين المواطن وإرثه الجمهوري، واستبداله بوعي طائفي جديد يخدم مشروع المليشيا السياسي.

أبعاد سياسية وثقافية

وعلى الرغم من القمع وفرض القيود، فإن مظاهر التحدي الشعبي لهذه الثقافة لا تزال حاضرة، ففي كل عام يشهد اليمنيون حملات إلكترونية ضخمة في مواقع التواصل لإحياء المناسبات الوطنية، ويرفع السكان في مختلف المدن أعلام الجمهورية سرًّا وعلنا على أسطح المنازل أو في الشوارع ويتغنون بأناشيد الثورة.
ويؤكد محللون سياسيون أن مشروع الحوثي في إلغاء المناسبات الوطنية ليس مجرد سلوك طائفي، بل جزء من إستراتيجية شاملة تهدف إلى بناء “دولة سلالية” تستمد شرعيتها من “النسب” لا من إرادة الشعب، فإلغاء الأعياد الوطنية هو في جوهره نزع للشرعية التاريخية عن الجمهورية واستبدالها بشرعية “الحق الإلهي”.
وكما يبدو المشهد خطيرا إلا أن هناك مؤشرات على بقاء الوعي الجمهوري في وجدان اليمنيين، فوسائل الإعلام الحرة في الخارج، والناشطون في الداخل، يواصلون التذكير بالمناسبات الوطنية وإحياءها بطرق رمزية.
ورغم كل محاولات الطمس والتشويه، يبقى وعي اليمنيين هو الجدار الأخير الذي يحول دون نجاح هذا المشروع، فالثورة التي اندلعت ضد الإمامة قبل أكثر من ستين عامًا، ما تزال جذوتها متقدة في قلوب الأحرار، وستظل المناسبات الوطنية رموزًا خالدة لوطنٍ يأبى أن يُلغى من ذاكرته تاريخه الجمهوري مهما حاول الطغاة.

كلمات دالّة

#اليمن