فيس بوك
جوجل بلاس
المجلس الأعلى للتكتل الوطني يبحث مع القائم بأعمال السفير الأمريكي مستجدات الوضع
رئيس الهيئة العليا للإصلاح يهنئ رئيس اتحاد الرشاد بذكرى التأسيس
سياسية الإصلاح تنفذ برنامجا حول صناعة التحولات السياسية لقيادات المكاتب التنفيذية
أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة التربوي والمربي الشيخ عبد الله مشدود القيادي بإصلاح أبين
إصلاح أبين ينعى أحد قياداته الشيخ عبد الله مشدود ويشيد بعطائه في ميادين التربية والعلم والدعوة
مأرب تحتضن عزاءً مهيبا للشهيد الشيخ صالح حنتوس رمز مقاومة الكهنوت
أمين عام الإصلاح يعزي البرلماني عبد الكريم شيبان في وفاة والدته
رئيس إصلاح العاصمة في عزاء فؤاد الحميري بمأرب: جمع صفات الوعي النضالي المتكامل
الحوثيون وإسرائيل وبشاعة القتل بالمنازل.. الشيخ حنتوس ونزار ريان مثالاً
تقارير:
1- "السيرة العطرة حياة كاملة لكنها ملفوفة بثياب الموتى، وحقائق حضارية لكنها ملفوفة بثياب الأساطير".
(الشيخ المفكر الفقيه محمد الغزالي، رحمه الله).
2- {إِنّا سَنُلقي عَلَيكَ قَولًا ثَقيلًا} (المزمل: 5).
إذن، الهجرة النبوية تكوين هوية أمة الإسلام، انطلاقا من القول الثقيل إلى بناء إنسان من العيار الثقيل، وصولا إلى صناعة أمة من العيار الثقيل.
3- كافحت أوروبا ما يزيد على 300 سنة، ثم خرجت بإعلان حقوق الإنسان الذي رافق قيام الثورة الفرنسية، وقيل عنه يومها إنه ميثاق رسالة عالمية، لكنه جاء ناقصا من مبدأين اثنين، هما: الحرية، وحقوق المرأة. وبعد ثلاث سنوات خرجت المرأة تدعو إلى حقوق المرأة، فَلَاقَتِ الدعوة استجابة، ولكن عام 1978م -بعد مرور 187 عامًا تقريبا- مفادها: يحق للمرأة أن تكون ناخبة.
4- الرسول صلى الله عليه وسلم، خلال 23 عاما، صنع أمة نموذجية، فيها ثمانية آلاف صحابي، بينهم ألف امرأة. وهذا الرقم هو المقصود بالقول: صناعة أمة من العيار الثقيل.
5- الصناعة النبوية للأمة لم تقم على معجزات، وإنما وفق السنن الإلهية التي زخرت بها آيات القرآن.
تقسيم الموضوع إلى ستة محاور:
أولا: ضبط المفاهيم.
ثانيا: مكونات البناء الثقيل للفرد.
ثالثا: معالم الصناعة الثقيلة للأمة.
رابعا: معالم شبكة الشروط الحضارية - سنن إلهية.
خامسا: معالم مخرجات الصناعة والتكوين الثقيل.
سادسا: أبرز الدروس المستفادة.
أولا: ضبط المفاهيم
المقصود بالقول الثقيل هو القرآن المجيد الهادي إلى طريق الرشاد. قال تعالى: {إِنّا سَمِعنا قُرآنًا عَجَبًا} (الجن: 1).
وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهدي إِلى صِراطٍ مُستَقيمٍ} (الشورى: 52).
وقال تعالى: {وَالَّذينَ يُمَسِّكونَ بِالكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنّا لا نُضيعُ أَجرَ المُصلِحينَ} (الأعراف: 170).
باختصار، القرآن زاخر بالنصوص الدالة على القول الثقيل: عقيدة، وقيما، وتزكية خلقية، وتربية، وتشريعا إنسانيا وحضاريا.
فماذا عن البناء الثقيل للفرد؟
يمكننا الاكتفاء بالغاية الوظيفية التي حددها القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِّيّينَ رَسولًا مِنهُم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كانوا مِن قَبلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ} (الجمعة: 2).
لقد تكررت النصوص القرآنية الدالة على وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن.
والمقصود بالتلاوة هو أن يتشبع الفرد المسلم وجدانيا وعقليا ولسانا، ليس بترديد نصوص القرآن فحسب، وإنما هي تلاوة يقوم بها الرسول صلى الله عليه وسلم مترسلا، هدفها بناء المفاهيم من جهة، وصياغة الشخصية المنشودة وفقا لتلك المفاهيم التي يتم استفادتها من تراكيب عبارات القرآن المركبة، ذلك أن القصص القرآني كان في العهد المكي بنسبة 98%.
فإذا اقتربنا قليلا نحو المفاهيم القرآنية الواردة في فلسفة أمثال القرآن المجيد، سنجد أنها (قارة) بكل معنى الكلمة. قال تعالى: {لَو أَنزَلنا هذَا القُرآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ اللَّهِ وَتِلكَ الأَمثالُ نَضرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ} (الحشر: 21).
وحسب الدكتور محمد جابر فياض العلواني، الذي أخرج لنا كتابا ضخما حول الأمثال في القرآن، لقد طالت مقدمة الكتاب، وانتهى إلى الاعتراف بالعجز إزاء عمق فلسفة أمثال القرآن، ذلك أنها تكتنز فيها قصص وتجارب وسنن وأهداف ثقافية وتربوية، ولها عظيم الأثر في بناء شخصية الفرد والمجموع.
باختصار، وظيفة التلاوة النبوية طيلة 84 سورة في العهد المكي كانت تثبيتا لفؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيكَ مِن أَنباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ في هذِهِ الحَقُّ وَمَوعِظَةٌ وَذِكرى لِلمُؤمِنينَ} (هود: 120).
نعم، كما أنها تثبيت لفؤاد الرسول، فهي ذكرى للمؤمنين كي يثبتوا على المبادئ، وقد ثبتوا رضي الله عنهم، فأول شهيدة كانت سُمَيَّة، وزوجها بعد ثبات أسطوري أصاب المشركين بإحباط قاتل.
ثم، ماذا عن وظيفة التزكية؟
نستطيع القول إن التزكية امتزجت فيها بقية الوظائف: تعليم الكتاب، وتعليم الحكمة. فالتزكية هي غرس القيم الخلقية، الضمير القلبي المستحضر لأبعاد ومقاصد التزكية، الضابط للسلوك العملي وثماره وآثاره في النفس والاجتماع.
وتدخل القيم الكونية ومقاصدها وحكمتها في إطار التزكية دخولا أوليا، والمتمثلة في كرامة الإنسان وحريته وإرادته واختياره، ومبدأ العدل والمساواة والتعارف والأخوة والتكافل.
أما الهدف من الوظيفة النبوية في التعليم فيتمثل في البناء الفكري، كالتعاطي مع السنن الكونية في النفس والاجتماع، وكيفية اجتراح وسائل بناء الفرد في كل اتجاه. وهكذا استمرت التربية النبوية للصحابة في مكة وفق معايير البناء الثقيل.
وفي نظري، يتركز ثقل البناء في بلورة وترسيخ حكمة التشريع ومقاصده الكلية بوضوح تام، بما في ذلك الأهداف المرحلية ووسائلها. ومن هنا نعرف سر الثبات والتضحية في العهد المكي، لأن الصحابة تجلت أمامهم الحكمة الشاملة، بدءا من المقاصد العليا لخلق الإنسان: عبادة، وعمارة، وكرامة، وتزكية، بفضل التربية النبوية التي تشربها الصحابة، فأصبحت ثقافة وسلوكا راسخا في النفوس، يحدوه تطلع ونزوع فكري ونفسي إلى التطبيق العملي من خلال الظرف المواتي، زمانا ومكانا.
الجدير ذكره أن التاريخ لم يسجل حالة ردة من مسلمي مكة، بل إن مكاسب الدعوة لم يعتَرِها أي نقص.
وحسب الدكتور طيب برغوث، فإن أصعب السنوات المكية على الصحابة هما السنة السادسة والسابعة للبعثة، حيث لا كسب إلى صف الدعوة من داخل مكة، لكن حصل الكسب خارج مكة. وفي السنة الحادية عشرة للبعثة، نزلت سورة يوسف، حيث لم تقتصر السورة على بعث الأمل وتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة فقط، وإنما تضمنت منهجا فكريا.
قال تعالى: {قُل هذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ} (يوسف: 108).
البصيرة يكتنز فيها رؤية متسقة متكاملة: عقديا، وقيميا، وسننيًطا، وتزكية وتربية، وأبعاد المنهج المعرفي، والتطلع إلى إعمال وتفعيل الوسائل، والتفكير بالظروف المواتية، زمانا ومكانا.
ثانيا: معالم الصناعة الثقيلة للأمة في العهد المدني
حضور الحكمة المقاصدية في كلا العهدين.. فإذا كان الصحابة في العهد المكي قد واجهتهم صور شتى من العنت: حقد أهل الضلال والشرك، وفوضوية الطاغوت، وغواية وعنجهية التسلط الطاغوتي، فها هم الصحابة يلاقون ابتلاءً من نوع آخر، يتفق والعهد المدني الجديد الذي اتسمت معالمه بروح الأمن والاستقلال النسبي.
فقد كان النفاق أسوأ صور العنت، الأمر الذي يحتاج إلى علم وحكمة جديدة تعين على الثبات والتوازن والمضي صوب الأهداف.. صحيح أن النفاق يمثل أقلية، لكنه كان أشبه بالفئران داخل مكونات جدار البناء المجتمعي، سيما والمجتمع الإسلامي لا يزال حديث التجربة والتكوين.
ولا شك أن الانتقال بالبناء الفردي إلى مسار صناعة أمة من العيار الثقيل شاق على الذهنية والسلوك، ذلك أن الصحابة في مكة ثبتوا، وكان للبيئة دورها ولو نسبيا، فتحملوا خلق الاستكبار العشائري القائم على توازن القوى، وثقافة مجتمع مشرك، وأنانياته المختلفة.
كذلك جغرافية المدينة، اجتمع فيها عدد من البطون اليهودية المختلفة ثقافة وأعرافا.. نلمس ذلك من تنصيص دستور المدينة على أن لكل بطن ثقافتها وعرفها وغير ذلك. وفوق ذلك، النفسية اليهودية المهترئة المحطمة: تعاليا وحسدا وخساسة وتربصا ونزوات نفسية، كل ذلك خلف أحقادا لا يخمد لهيبها، سعيا إلى تفتيت المجتمع الإسلامي الجديد.
نعم، قد كان كل ذلك كوما، والنفاق كوما، وحداثة المقام وتجربة صناعة المجتمع كوما. لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سلك طريق السنن الإلهية آنفة الذكر، فكان التأييد الإلهي في معيته.
كما أن التربية المكية كانت قد رسخت في أذهان الصحابة مفاهيم السنن الإلهية حد التشبع. كيف لا، والقرآن المكي زاخر بالهداية السننية؟ فهذا التشبع بحد ذاته سنة، كان لها أثرها في سلاسة التطبيق، سيما ثقافة التعايش مع المخالف المتربص والحقود اللجوج الحسود.
إلى جانب ذلك، فقد كان التعاطي النبوي مع سنن الاجتماع له أثره في انقياد النفوس والعقول بطريقة أو بأخرى. إنها سنن القواسم المشتركة، وفي مقدمتها: الإخاء، كرامة الإنسان، العدل، الحرية، المساواة، المواطنة، أي حق الانتماء إلى الرقعة الجغرافية بنص الدستور. وأفضل من ذلك: مبدأ الدفاع المشترك.
التزام الصحابة بمبادئ القواسم المشتركة استحق سنن التأييد الإلهي، ذلك أن التزام القواسم المشتركة كان من منطلق عقدي، قيمي، خلقي، تشريعي، وسلوكي.
ثالثا: معالم شبكة الشروط الحضارية -مدخلات الصناعة الثقيلة- إنها سنن إلهية بامتياز
يتفق علماء الاجتماع حول صعوبة التغيير الثقافي العادي، ناهيك عن التغيير الهادف إلى صناعة الأمة وفق السنن الإلهية، ابتداءً من تغيير ما في الأنفس وصهرها في إطار مجتمع جديد. علمًا بأن المجتمع أبوي قبلي.. الفرد والمجموع يعشقان الفوضى والتفلت ويكرهان النظام.. حماية ابن القبيلة الظالم نموذجا.
هذا المجتمع القبلي يتلقى برنامج تغيير جذري يريد تزكيته النفسية والعقلية، وصولا به إلى حب النظام والتزامه، وكراهة التسيب والفوضى، انطلاقا من قناعة داخلية ذاتية، لا بقوة القانون.
نعم، لقد حصل التغيير المنشود بواسطة عدد من الشروط السننية، كانت هي مادة الصناعة الثقيلة للأمة، فتأهلت الأمة لحمل المشروع الحضاري.
تمثلت تلكم الشروط في المسرد التالي:
1- التوحيد في مواجهة الشرك.
2- العلم والمعرفة في مواجهة الأمية والظن والهوى والجهل والخرافة.
3- الدولة في مواجهة القبيلة.
4- الأمة في مواجهة العشيرة.
5- التشريع في مواجهة الآبائية والأعراف المعوجة.
6- الشورى في مواجهة الفردية والإقصاء للآخر.
7- الإصلاح والإعمار والنظام في مواجهة التخريب والفوضى والإفساد.
8- الأخوة الإنسانية في مواجهة العنصرية (والتسيد الإبليسي).
9- المبدئية في مواجهة الشخصانية.
10- صناعة الأمة من خلال الفرد الملتزم بالنظام والقيم الإنسانية، المنبثقة من العقيدة والمتجذرة في عمق العقيدة السمحة، في مواجهة الشخص الجاهلي المتفلت، المتعشق للفوضى والتسيب، وكراهية النظام.
إذا تأملنا شبكة الشروط الحضارية الآنفة، سنجدها قد تضمنت تطبيقا عمليا لـ"مركزية التوحيد" على الوجهين، إيجابا وسلبا.
فالإيجاب هو الإقرار بإفراد الله بالعبادة من خلال النطق بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، أما الجانب السلبي فهو الكفر بالطاغوت، كما في قوله تعالى: {فَمَن يَكفُرْ بِالطّاغوتِ وَيُؤمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَةِ الوُثقَى لا انفِصامَ لَها} (البقرة: 256).
ذلك أن التوحيد الإيجابي لا يتحقق إلا بالتوحيد السلبي، وهو الكفر بالطاغوت.
أعد النظر في المواجهة الآنفة بين المفاهيم الإيجابية للتوحيد، يقابلها الكفر بالمفاهيم الطاغوتية قولا وعملا. انظروا إلى القرآن كيف يهدينا للتي هي أقوم، عدم الركون إلى الظلمة نموذجا.. قال تعالى: {وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُم مِن دونِ اللَّهِ مِن أَولِياءَ ثُمَّ لا تُنصَرونَ} (هود: 113).
رابعا: نماذج لمخرجات الصناعة الثقيلة
الوعي الراسخ بأهداف الرسالة الخاتمة، الأمر الذي يعطينا دلالات لا تقبل الجدل حول وضوح مقاصد التربية النبوية المستندة إلى مقاصد وكليات القرآن، كما تعطينا دلالة قاطعة على مكانة التوظيف النبوي للقول الثقيل، المتمثل في السنن الإلهية، والتي صنعت أمة من العيار الثقيل.
كما تعطينا دلالة في غاية الأهمية، وهي أن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم تجاوزت مفهوم بناء كائنات دينية إلى مفهوم آخر، هو تحقيق قول الله: {مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ} (الأحزاب: 23).
نعم، قلنا في التقارير أعلاه: لقد التف حول الرسول صلى الله عليه وسلم ثمانية آلاف صحابي، منهم ألف امرأة، إحداهن حكمت السوق في خلافة عمر، وأخرى اعترضت على مشروع قانون أراد إصداره الفاروق رضي الله عنه بشأن غلاء المهور، فاعترضت عليه امرأة بحسب فهمها، فسحب الفاروق مشروعه، ولم يقل لها: من أين أتيتِ بفهمك لدلالة القنطار في القرآن؟ {وَآتَيتُم إِحداهُنَّ قِنطارًا} (النساء: 20).
وثالثة تستنبط حكما شرعيا بشأن المدة التي يمكن للمرأة أن تتحمل فراق الزوج، وذلك من مفهوم آية الإيلاء: {لِلَّذينَ يُؤلونَ مِن نِسائِهِم تَرَبُّصُ أَربَعَةِ أَشهُرٍ فَإِن فاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ} (البقرة: 226).
لقد قدمت استنباطها مصحوبا بعبارة لاذعة للفاروق: كنت عميرا، وجاء الإسلام فسماك عمر، وأصبحت خليفة، ولكن لم تفقه تكييف قضية تحمُّل المرأة.
فقال لها: علِّميني، لعلك أفقه مني.
فتلت عليه آية الإيلاء.
الجدير ذكره أن الفاروق لم يشاور الرجال.
ننتقل إلى برهان: إنفاذ جيش أسامة.
هذا الموقف له دلالات سننية جسدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من خلال فهمه العملاق للأبعاد النبوية ومقاصده صلى الله عليه وسلم من تجهيز جيش أسامة، حيث رد الصديق على طلب البعض أن المدينة بحاجة للجيش، فقال: لن أفك لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانطلق يستأذن أسامة أن يسمح له ببقاء عمر بجوار الصديق، فالمهمة جديدة وشاقة، ولا تفكير في الاستبداد.
وفي اليوم التالي، خرج الصديق يحمل غرارة البضاعة فارغة، متجها إلى السوق، فالتقاه الفاروق سائلا: إلى أين؟
قال: إلى السوق.
قال عمر: أترك أهلي وأولادي جياعا؟
الفاروق: ارجع إلى المسجد لمشاورة مجلس الشورى بشأن تحديد جراية، راتب شهري، يكفيك وأولادك.
تأملوا تراكم الدلالات في الموقف الآنف.. دلالات على الصناعة الثقيلة المتجسدة في الموقف.
نأتي إلى موقف الفاروق في مؤتمر الجابية بالشام، عقب معركتي اليرموك والقادسية.
ها هو الفاروق يحضر إلى ضاحية الشام، ويجمع قادة الجيش قائلا: إلى هنا وكفى.
يا إلهي، عمر يمنع الفتوحات؟
الجواب: نعم.
ولكن، تعالوا إلى المقصد الفاروقي العظيم.
إنه يريد إنزال الصناعة الثقيلة للمجتمعات المفتوحة.
إنه يريد التوقف سنوات فقط، وهدفه رسالي واضح.
لم يتعسف القرار، وإنما قدم مبررات دالة بوضوح على أهمية الصناعة الثقيلة للأمة، فوافقه الجميع.
فقط، استأذنه عمرو بن العاص بفتح مصر، مبررا طلبه بتقديم خريطة للشام يشقها سهم تجاه مصر، قائلا: إنه لا استقرار للشام بدون فتح مصر.
هنالك أقره الخليفة، مؤكدا ألّا يقوم بعد ذلك بأي عمل عسكري إلا بعد انتهاء المدة المحددة المتفق عليها.
بعد ذلك، أصدر الفاروق قرارا سننيا فريدا، قرارا اجتماعيا، سياسيا، ثقافيا، كفيلا بالصناعة الثقيلة للأمة.. تمثل القرار في تسليم أرض العراق إلى الأنباط، الفلاحين الذين يعملون في زراعة الأرض، بمقابل ما يشبع بطن الفلاح، وبقية الغلال تذهب للإقطاع الفارسي.
اعترض قادة الفتح على الخليفة، قائلين: إن القرار مخالف للفعل النبوي، وفعل الصديق، بل وفعل الفاروق في السنوات الأولى من خلافته.. فهل استبد الفاروق بالقرار؟
لا، أبدا.. وإنما جمع كبار فقهاء الصحابة، واستمر الحوار 65 يوما، وتوصل الجميع إلى المقاصد الجبارة للقرار الفاروقي العظيم، والمتمثلة أولا في مقاصد القرآن في مجال المال: {كَي لا يَكونَ دُولَةً بَينَ الأَغنِياءِ مِنكُم} (الحشر: 7).
وثانيًا: تحقيق مقصد رسالي، إسلامي، إنساني، اجتماعي أعظم، يتمثل في نسف الطبقية السلالية والإقطاعية، قائلا لقادة الفتح بلسان الحال والمقال: ما الفرق بين إزاحة إقطاعي فارسي، وإحلال إقطاعي عربي؟
وثالثا: إرساء أعمدة الصناعة الثقيلة للأمة، وفي مقدمتها الحرية للأنباط، قائلا لهم: إسلامكم وعدمه لن يؤثر على امتلاككم للأرض، وإنما المطلوب تقديم نسبة محددة من غلال الأرض.
أبرز آثار القرار:
تجذرت هوية الانتماء لدى الأنباط للدولة الإسلامية.. كيف لا، وها هم أصبحوا أحرارا دون خوف من طبقات الإقطاع الفارسي. وبمرور الأيام، يصبح الأنباط تجارا، وقادة جيش، ووزراء، وجلساء في بلاط الخلفاء وغيرهم.
ومن تداعيات القرار، أن فلاحي بقية الأقاليم انضموا إلى جيش المسلمين لمحاربة الإقطاعيين، رغبة في الحرية، وانعتاقا من أسر ظلم الإقطاع، فتهاوت الإمبراطورية في زمن قياسي.
أرأيتم قرارات رجال الصناعة الثقيلة الذين ترسخت فيهم مقاصد الرسالة الخاتمة؟
ما يثير القرف أننا نسمع بَغَامًا لسيد القطعان الميليشاوية السلالية العنصرية، قائلا -وبكل وقاحة وصفاقة وزور وبهتان على الله والرسول صلى الله عليه وسلم- إن انتسابه إلى المجوسية الفارسية والتسيد الإبليسي جاء به القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وإن القرآن منحه خمس خزينة الدولة.
وهناك كائنات دينية تنتمي إلى السُّنَّة، ها هي "تبقبق" حتى اللحظة، قائلة ببقاء الرق، العبودية، إلى يوم القيامة، وأن خرافة الخمس منحة سماوية للسلالية، والمطلوب من السُّنِّي ترك سب الصحابة، والخمس جاهز.
إعلان الفاروق هوية الأمة الإسلامية دلالة لافتة على الصناعة الثقيلة.
الجدير ذكره أن الصحابة ناقشوا عدة مناسبات، لكن الفاروق اختار حدث الهجرة.. كيف لا، والهجرة صانعة الأمة.
نأتي إلى نموذج أمني، إنه الصحابي صاحب العقلية الأمنية الفذة، أمين السر النبوي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، والذي عاد مسرعا من فارس بعدما وجد الفرس قد تشعبوا في اختراع بلبلة، قراءات قرآنية لا أصل لها، وأصبحوا يجادلون حد الشغب عن كذبهم وبهتانهم، بعدما عجزوا عن المواجهة العسكرية.
حضر حذيفة إلى الخليفة عثمان رضي الله عنه، قائلا: أدرك الأمة، لقد اختلفت في كتاب ربها، فأدركها قبل أن تصل إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل في توراتهم، فكان القرار الثقيل الحاسم للموقف، حُددت قراءة واحدة، أو بما لا يختلف مع رسم المصحف، وتم طباعة ثمانية مصاحف، أُرسلت إلى الأقاليم.
فهل القول إننا إزاء صناعة ثقيلة فيه مبالغة؟
نستكمل بنموذجين.
أورد الإمام الذهبي في "ميزان رجال الحديث" قائلًا: بلغ رواة الحديث من النساء ثلاثة آلاف ومئتي فقيهة محدثة، لم يسجل التاريخ على واحدة منهن أنها أخطأت، أو أنها ضعيفة.. أما الكذب فمستحيل.
أيضا، الدكتور أكرم إبراهيم الندوي، أستاذ الحديث بجامعات بريطانيا، خرج إلينا أواخر عام 2015 بـ43 مجلدا، تضمنت تراجم لعشرة آلاف امرأة متخصصات في الحديث خلال 1400 عام.
الجدير ذكره أن الدكتور أكرم فاجأنا بترجمة للفقيهة المحدثة فاطمة البغدادية، والتي عاصرت ابن تيمية، وحضرت إلى دمشق، وكانت بغزارة علمها تُسكِت الفقهاء، وكان ابن تيمية رحمه الله يجلس القرفصاء إذا سمعها قادمة، ويستمر في جلسته حتى تنتهي من درسها.
الأكثر غرابة أن فاطمة البغدادية كانت تخطب الجمعة في جامع دمشق، بحضرة علماء المذاهب.
باختصار، نماذج الصناعة الثقيلة كثيرة، ويكفي أن الأمة عبر التاريخ ظلت تستحضر تلك الصناعة الثقيلة، لأنها تستهوي الأفئدة في التأسي والإنتاج الحضاري الفذ طيلة عشرة قرون، بشهادة خصوم الإسلام.
خامسا: الدروس المستفادة
الرسول صلى الله عليه وسلم لم تقم دعوته، ولا نجح في بناء الأمة عن طريق المعجزات، وإنما تعاطى صلى الله عليه وسلم مع السنن الإلهية، مجسدا لمقاصد القرآن: عقيدة، وتشريعا، وسننا، وقيما. وهذه نماذج لغايات القرآن ومقاصده:
{لَعَلَّكُم تَعقِلونَ}
{لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرونَ}
{لَعَلَّكُم تَتَذَكَّرونَ}
{لَعَلَّكُم تَتَّقونَ}
{إِنَّ في ذَٰلِكَ لَعِبرَةً لِمَن يَخشَىٰ}
{لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولي الأَلبابِ}
{فَاعتَبِروا يا أُولي الأَبصارِ}
{فَاستَخَفَّ قَومَهُ فَأَطاعوهُ إِنَّهُم كانوا قَومًا فاسِقينَ}
{فَمَن يَكفُر بِالطّاغوتِ وَيُؤمِن بِاللَّهِ}
لماذا تقدم الكفر بالطاغوت؟
{وَلا تَركَنوا إِلَى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ}.
غير خافٍ أن السنن الإلهية حاضرة في القرآن، ومقاصد تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم، الأمر الذي يستدعي تحريك العقلانية المؤمنة لاسترداد الفاروق وأمثاله، ولكن من أفق ثقافة العصر: فاعلية السنن الإلهية.
الاحتفال بحادثة الهجرة في حقيقة الأمر هو احتفال بصانع الهجرة والأمة، ومؤسس الدولة الإسلامية القائمة على القيم الكونية: الحرية والمساواة في طليعة تلكم القيم.. فلا سلالية عنصرية، ولا طبقية، ولا جهوية.
نؤكد بأن تفعيل السنن الإلهية كفيل بإخراج المثقف الاستثنائي، الحامل للرؤية الكونية الشاملة للحياة والنفس والاجتماع، والقادر على بناء المجتمع الواعي بقيم القرآن، والمقتدي بالسيرة العطرة، السنة العملية، بل والقادر على التجديد الفكري والفقهي، وصناعة الثقافة الحية.