الجمعة 08-11-2024 17:35:40 م : 7 - جمادي الأول - 1446 هـ
آخر الاخبار

مقاصد الوحي وتجديد تفكير المجتمع المسلم.. الحلقة الخامسة: منهجية التوحيد المتجاوزة - آلية الآليات

الأربعاء 17 يوليو-تموز 2024 الساعة 08 مساءً / الإصلاح نت-خاص-عبد العزيز العسالي

 

مقدمة:

تحدثنا في الحلقات الماضية حول الآليات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وضرورة تمكين المجتمع منها كي يقوم بمقصد عمارة الأرض إعمالاً للمقاصد العليا من خلق الإنسان - الفرد والمجموع، وقلنا إن هذا التمكين للمجتمع ليس منحةً ولا هِبةً ولا تفضلا من أحد وإنما هو عطاءُ الخالق العليم بمصالح الإنسان الشاملة.

غير أن تمكين المجتمع من هذه الآليات يصطدم بإشكالات عدة أساسها قصور في بعض جوانب التفكير لدى المسلم المعاصر، وتحديدا في مجال العلوم الإنسانية والتي انعكست على وسائل العيش المتغيرة تماما، الأمر الذي يستدعي - ضرورة - المبادرة إلى التجديد المنهجي التوحيدي المتجاوز.

التجديد المنهجي، مبرراته، وحجيته، وفاعليته، هو موضوع هذه الحلقة بعون الله.

المحور الأول، مبررات التجديد:

1- الانقلاب الشامل الكامل الذي طال جوانب حياة البشر عموما، غير أن العالم الإسلامي ظل ولا زال رازحا تحت التبعية المطلقة للحضارة الغربية.

2- التفكير المسلم يعيش أزمة - غيبوبة حضارية وتخلف ثقافي مرعب وتحديدا مجال العلوم الإنسانية. وقد قررت الملاحظات خلال 10 عقود مضت أن المجتمعات الإسلامية أدارت ظهرها لمناهج التغيير الوافدة، ذلك أن لكل مجتمع ثقافته.

3- محاولات إحياء إسلامي تلبية لمتغيرات الحياة، ولا ريب أنها محاولات مشكورة طيلة 7 عقود تقريبا.

4- تشوهات كثيرة وخطيرة.
مفكرون إسلاميون وفقهاء من العيار الثقيل راقبوا مخرجات الإحياء الإسلامي فكريا - تأصيلا منهجيا - وتطبيقات فقهية، وقد كانت توقعاتهم متواضعة تعود إلى طبيعة القصور البشري، وهذا ممكن تلافيه، لكنهم فوجئوا بما سموه تشوهات خطيرة.. سنذكر أبرزها..

5- تشوهات الرؤية الكلية، أي أن المنهج الفكري - العقدي يعاني اختلالا قيميا خطيرا لحق بمركزية التوحيد، فانحصر مفهوم الطاغوت في الأصنام ثم في شخص فرعون وهامان كونهم كفار، لكن الطاغوت الذي يتشدق بقول لا إله إلا الله فهو طاغوت مطاع ومقدس صادر عن اجتهادات لها سياقها وليس فيها إلزاما لأحد بطبيعة الحال.

هذا التشوه الذي طال مركزية التوحيد انبثق عنه التشوهات التالية..
- غياب تام لمبدأ الحرية.. وهذا يعني أن قدسية كرامة الإنسان قد تلاشت، الأمر الذي يعني تلاشي القيمة العليا الحاكمة - مقصد عمارة الأرض.
- انفصال القيم عن التوحيد - أي عن ركني الإيمان بالله واليوم الآخر.. وهذا يعني أن الحرية والكرامة وعمارة الأرض والسنن الإلهية التي سخرها الله لنا بل وأمرنا بالتعاطي معها - كونها توحيد سنني - قد أصبحت هامشية إن لم تكن غائبة.
- مناصبة العداء للعقل السنني.. أعني أن المنهج التوحيدي - مبدأ التسخير، وآلية فقه الواقع قد حوصرا في مفاهيم لاهوتية كنسية دخيلة على شريعة الإسلام الإنساني الحضاري.. تلك اللاهوتية طغت على مقاصد القصص القرآني وهنا عادت الطاغوتية المستبدة والملأ والآبائية.
- تلوث عقدي ثقافي جماعي خطير - تحصين للطغيان فارتبك النظر المنهجي وحضر التسليم لتخاريف أهل الكتاب وانتشرت الشعوذة والتدين الشكلي.
- غياب مقاصد التزكية ومنها العزة بالله وغاب القيام بالقسط داخل المجتمع تجاه بعضه.. تآكل النسيج المجتمعي وحضرت العصبيات فتكرست معها نفسية العبيد.. وهنا فقد المجتمع لذة الحرية بل استمرأ عيشة الذل بسبب المخدر الديني التالي..
- التصوف المتفلسف يرسي دعائم الشرك الأكبر. قائلا إن الطبيعة ميدان كوارث الخالق سبحانه.. والإنسان ميدان كوارث الطغيان.. وبما أنه يحرُم الاعتراض على الخالق، فإنه يحرم الاعتراض على الطغيان.

لم يكتف أصحاب هذا الهراء بما سبق وإنما حشدوا خرافات هي غاية في الانحطاط صادرة عن عقليات مريضة - كما يلي..

- العقيدة الجبرية.. أي أن ما يفعله الطغاة والقتلة والمفسدون في الأرض هو قضاء الله وقدره.. فالله يفعل ما يشاء.. والحل الأمثل هو الخلاص الفردي في الكهوف البعيدة وليكن شعاره: "دع الملك للمالك".. فانظروا بربكم هذا السقوط من يخدم.
- قدسية رأي الحاكم أو نائبه وتقديمه على الإجماع.. وهنا تم القضاء على آخر أنفاس الشورى وتهميش كبار العلماء والمفكرين المتخصصين المتمرسين ذوي الخبرات.. وهكذا اتسعت سبيل الطغيان فتسلط بالجبروت ليذل المجتمع الذي أعزه الله بتمكينه وتمليكه آليات ووسائل حماية حقوقه ومصالحه.

الخلاصة: جميع ما سبق وغيره مما سيأتي وما لم نذكره.. قد تحول إلى جنادل خرسانية.. كما سنوضحه في المحور التالي..

المحور الثاني: تقليد، ثقافة ممانعة، إرهاب فكري:

1- تزامن لافت للنظر: بعد عقد تقريبا من القرن الرابع الهجري شاع القول بمنع الاجتهاد وإلزامية التقليد.

دخول نفق التقليد تزامن معه حضور لافت لمذهب التصوف المتفلسف.. فهل هذا التزامن هو محض صدفة؟ إضافة إلى ذلك الانقلاب البويهي الباطني على مركز الدولة العباسية ببغداد والتي رفعت شعارا خبيثا ماكرا حاقدا بأنهم زيدية يدعون إلى حرية الفكر والهدف هو حماية تلكم الانحرافات والتشوهات المنحطة.

2- ترسيخ التقليد المذهبي: بمرور السنين ترسخ التقليد المذهبي - فكريا وفقهيا، والأخطر هو التقليد في الأصول، فتحول إلى معارك كلامية ولفظية عمياء.

3- ثقافة ممانعة فقهية: التعصب المذهبي بمرور الزمن تحول إلى جلاميد صخرية تعلوها ضبابية كثيفة عزلت المنهج عن التفكير الفقهي وحرمت عليه النظر ليس مع بقية المذاهب فقط وإنما وصل الحال إلى تهميش المنهج بين طلاب المذهب الواحد. وإذا أعلن الطلاب رغبتهم في معرفة منهج أصول المذهب يتم تلبية الطلب ولكن بهدف التعرف فقط بلا تطبيق.

4- إرهاب فكري، وأحيانا تكفير.. هذه قضية شرحها يطول، لكن الغريب هو الاتفاق على حق الحاكم في تشريع المصالح العامة، وتقديم قوله أو قول نائبه على الإجماع - مؤسسة الشورى.

وأسوأ صور الإرهاب تكفير من يخالف الإجماع وإن كان بحرا زاخرا بالعلوم، لكن الحاكم ولو كان غبيا فمن حقه أن يخالف الإجماع.

وأسوأ من ذلك اتفاقهم على الدينونة للحاكم المبتدع بدعة ضلالة.. والعالم المجتهد لو خالف الإجماع ولديه دليل أقوى فهو مبتدع يجب إعلان الحرب عليه.. هل رأيتم تنافرا معرفيا انزلق بالتشريع الإسلامي العادل إلى عماية ألغاز لاهوتية يجب التسليم لها حفاظا على الدين؟

5- انقلاب السنة بدعة والعكس: انقلبت المنحة الربانية للمجتمع بدعة منكرة، وانقلبت فريضة حصار المجتمع للطغيان والفساد بدعة منكرة.. وهكذا شاء الله ورسوله للحاكم يفعل ما يشاء.

6- تحصين الطغيان: الصراعات بين الجماعات حول الجزئيات مستعرة لا يخمد لها أوار.. وكل يجد ما يعزز رأيه من التراث، لكن دينهم جميعا هو تحصين الطغيان وتدمير كرامة الإنسان.. إن لم يكن هذا انحرافا عن مقاصد القرآن.. إن لم يكن هذا إرهابا.. فما هو الانحراف وما هو الإرهاب؟

المحور الثالث: فشل، وعجز مكتسب، وانبطاح:

هذه نماذج التقطناها من كتب الفقه والأصول نطالب القارئ أن يقيس عليها قضايا مماثلة في التراث الفقهي.

فروض الكفاية:

هذه قضية موجودة في كتب الفقه والأصول، والعجيب أن العقلية التقليدية أثبتت عجزها عبر القرون مكتفية - بلا خجل - بتكرار تعريف واحد هكذا: "فرض الكفاية كالصلاة على الجنازة" إذا قام به البعض سقط عن الآخرين.. النادر جدا جدا قال: فروض الكفاية مثل تعلم الطب والنجارة وما شابه ذلك.

المنهج المفقود فقه الواقع:

لو قيل للعقلية المحنطة إن ذلك التعريف قيل في سياق تاريخي كان المجتمع يمتلك وسائل وأسس ودعائم مصالحه، ذلك أن مؤسستي الوقف والزكاة كانتا بعيدتين عن السلطات، الأمر الذي يجعلنا اليوم نعيد النظر في الواقع المعيش، فالسلطة الفاسدة ابتلعت الوقف والزكاة من جهة، ومن جهة أخرى غير خاف على عاقل الانقلاب الكامل الذي طال جوانب الحياة في واقع اليوم ومن ذلك فروض الكفاية أصبحت من واجب السلطات. وإذا تقرر هذا يجب إعادة التأصيل لفروض الكفاية من زاوية العمران، فالجمود الذي ربطنا بالجنازة قد ألحق بنا أضرارا ثقافية وحضارية سيئة.. وانظر معي البند التالي..

إجازة مفتوحة لحزب الحاكم:

الهدف من الإجازة الآنفة انتشار سوس الفساد البرلماني الكسيح إبان الامتحانات النهائية لطلاب الثانوية لمساعدة الطلاب - إما مكافأة على تزوير فائت وإما عربون على تزوير قادم. إنني أقسم بمن يراقب أنفاسي أن واعظا صرخ في وجهي قائلا: دعوا الطلاب، أيش يا شيخ؟ أجاب الشيخ: التعليم كذب.. والدولة تكذب.. والغش كذب.. وإذن: كذب×كذب×كذب=كذب.. فاتجه الكاتب إلى الجانب الآخر خارج القاعة وفجأة لقيت عضو البرلمان وبجواره عدد من حملة الرتب العسكرية من منتسبي الجيش والأمن فأبديت امتعاضي إزاء المشهد المقرف.. فقالوا بصوت واحد: دعاية انتخابية. وهكذا التقى المفسدون والوعاظ الحمقاء في مستنقع - دع الزعيم يتصرف. بربكم: أنترك زمام التشريع لـ...؟! متى كانت الذئاب أمينة على مصالح الشياه؟

غرور واستطالة ووقاحة:

البعض ملأ الدنيا ضجيجا.. وللإنصاف عطاؤه متميز جدا في هتك القناع الزائف للمفاهيم الغربية الوافدة، لكن استبد به الغرور فصب أنواع الاحتقار والتسفيه ليس ضد المنهج المقاصدي وإنما ضد عظماء صناع المنهج المقاصدي - الجويني والغزالي وابن رشد والعز بن عبد السلام والقرافي والشاطبي وابن عاشور وغيرهم.. والسبب أن بعض المفكرين دعوا إلى إعادة التأصيل لقضايا الحياة من خلال المنهج المقاصدي.

غير أن الذاتوية المفرطة المغلفة بالتزكية الهشة أعمت فيلسوف العصر فانزلق تسخيفا لأعظم المجددين ولسان حاله ومقاله: سأهدم متكأ دعاة التجديد المقاصدي.

وشخصية أخرى أيضا كثيرا لاقت تقديرا في الوسط الفقهي، كونها قدمت أطروحة أكاديمية في المنهج المقاصدي، ويا لهول المفاجأة بسبب تنافس على مكانة ما، انزلق إلى هوة إنكار وجود أي دليل في القرآن والسنة حول الدولة والسياسة والدستور والتعددية... إلخ.

الجدير ذكره أن هذا والسابق قطعا نقل أحدهما عن الآخر نقلا حرفيا وهو تحريم نقل البدع عن الغرب والبديل هو شحن الفطرة بالإيمان 80 عاما.. ووصلني قبل أيام كتاب إلكتروني يربو على 700 صفحة، عنوانه "الارتقاء إلى منظومة المقاصد". هششت له مستعرضا الفهرست لاقيت عناوين محلقة ولافتة وجديدة فصارعت النوم كدت أطير زهوا وبادرت أتصفح.. وأقسم أن مجموع الكتاب لا يساوي 5% من الحبر الملطخ للصفحات.

الجدير أن المؤلف يتولى مؤسسة فقهية مستقلة شعارها التجديد.. وليس أخيرا، أحد المنتفخين بانتسابه لذات المؤسسة وقد رفع صوته ببضاعته التي يمتلكها - عبارات الرهبوت - مزمجرا ضد شخص قال له: "القاعدة المنهجية تقول إن من علامات ضعف متن الحديث أنه يتضمن ثوابا كثيرا على عمل قليل".. فأبدى تعالمه أنه يعلم القاعدة ولكن المضحك هو قوله: "القاعدة صح لكنها تحتاج مجامع فقهية لفهمها".

المحور الرابع، المنهجية التوحيدية المتجاوزة:

سأتكلم في هذا المقام بإيجاز.. ونظرا لأهمية المحور سأترك التفصيل والتمثيل التطبيقي للحلقات القادمة.

1- المنهج: مفهوم المنهج هو المرتَكز المحوري للمنهج التوحيدي يعني "قراءة الكتاب المسطور، وقراءة الكون المنظور".

2- القرآن الكريم نصوصه زاخرة بهاتين القراءتين: "اقرأ باسم ربك الذي خلق".. هذا دليل قراءة الكتاب المسطور.. وقوله: "خلق الإنسان من علق • اقرأ وربك الأكرم • الذي علم بالقلم".. هذا دليل قراءة الكون المنظور.

3- نصوص القرآن الهادية علميا كثيرة جدا: "اهدنا الصراط المستقيم".. وهلم بعد ذلك.. النصوص الداعية للقراءة الثانية بلغت361 نصا تقريبا.

3- التوحيدي: يعني أنه منهج معصوم المصدر وليس من اجتهاد بشر.. وهذا دليل مكانته وأهميته وقوة إلزامية حجيته وفرضيته.

4- المتجاوز: يعني أنه يتجاوز التقليد للاجتهادات التي صدرت في سياق مختلف عن سياقنا.. من جهة ثانية، المتجاوز يعني أنه منهج قادم من خارج الزمان والمكان معصوم مقدس صادر عن العليم الخبير.

من جهة ثالثة، أنه متجاوز للفلسفات المادية الوضعية المعاصرة والتي ألحقت أضرارا تدميرية بالإنسان.. فالفلسفة المادية جاءت لتحمي الإنسان من الإنسان لكن المنهج التوحيدي المتجاوز جاء ليقرر حق الإنسان كمخلوق مكرم جاء لعمارة الأرض، كما أن المتجاوز يعني: المسلمون مكلفون عقديا وشرعيا بتقديم إسهام فكري ينقذ الإنسان من جحيم المادية المعاصرة، وعليه كل ما سبق من دلالات نجد أنها تشير إلى قوة الاحتجاج التشريعية لهذا المنهج وعظمتها، وهذا يرفع درجة الوجوب والإلزام، حسب كلام الشاطبي رحمه الله.

المحور الخامس، فاعليته:

1- فاعليته إنسانيا وحضاريا.. لقد انقلب الغرب ضد الكنيسة كونها ربطت كل تشريعاتها باللاهوت منكرة للعلم والعقل والسنن. وهذا الانقلاب الغربي انتقلت عدواه إلى نخبتنا المتغربة فنظروا إلى المنهج التوحيدي بمنظار الرؤية الكنسية اللاهوتية.

2- فاعلية المنهج التوحيدي: المنهج التوحيدي المتجاوز تضمن عقيدة الإيمان بالغيب ولكنه لم يقف ها هنا وإنما تميز بنصوص هادية للعقل وهادية إلى أهمية ومكانة ودور معيارية العقل في فهم النصوص ثم فقه موازنة تنزيل النص في ضوء سنن الله في النفس والاجتماع والكون، وهنا خرج عن مفهوم اللاهوتية إلى التشريع الإنساني
الحضاري - العقلانية المؤمنة.

وليس أخيرا: وسائل تحقيق هذا المنهج: من خلال تجربة العقلاء طيلة 40 عاما جاءت المخرجات ضئيلة كون العقول ملوثة بالتقليد جامدة عاجزة، ويا ليتها اعترفت بعجزها، وإنما تمانع وتأبى اعتقادا أن المنهج التوحيدي المقاصدي ضد الكتاب والسنة.

وعليه فالحل المتصور هو: العمل على نشر مفاهيم المنهج عبر وسائل التواصل وغيرها، لكن الفاعلية لن تؤتي ثمارها إلا بتربية جيل وصياغة نفسيته وعقله ووجدانه وإبعادها عن كل الملوثات التي شوهت القيم العظمى.

نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بكم في حلقات قادمة تفكيكا لمفهوم المنهج وتطبيقا له نصوصا وسننا وواقعا.

كلمات دالّة

#اليمن