حكومة حــرب!
حسين الصوفي
حسين الصوفي
   

قبل يومين وقف موظف حكومي في مدينة ذمار، وقف بإحدى قدميه في رصيف الشارع بينما وضع الثانية على بوابة الآخرة حينما صبّ على جسده جالون بنزين، ثم أضرم النار في نفسه، وغادرت روحه بعد أن احترقت كل إمكانيات الصبر عنده في ضعف غير مبرر البتة!

وبعد أقل من 24 ساعة لحقه موظف حكومي آخر في ذات المحافظة –ذمار- أيضاً.. انتحر ضنكاً وضيقاً، وليتهما ما فعلا، ليتهما ما أقدما على هذه النهاية المأساوية التي لا يمكن لمسلم أن يقبل بحديث نفسه عنها ناهيك عن الإقدام على هذه الفعلة الشنيعة!

وما يفيد التمني بعد أن وقع الفأس في الرأس، وما كان لي أن أكتب حول هكذا هروب من الحياة والتجاء ضعيف إلى الانتحار في هزيمة نفس وانعدام أمل بالله أولاً وبالإنسان الذي أتمنه الله نفسه وحمله مسؤولية خلافة الله في الأرض والقيام بواجباته ومسؤولياته وأولها وأهمها وأكبرها –أقصد هذه الأمانة- ردع الظالم والوقوف في وجه المتجبر ومقاومة الجائر. ما كان لي أن أكتب حول هكذا وجع لولا أن نقاشاً وصلني ممن يمكن التعويل عليهم باعتبارهم الجدار الأخير في البناء؛ و يا لهول الصدمة حين يبوح لك أحدهم ممن لا يزال يعيش تحت سيطرة المليشيات بإصغائه -في لحظة وجع- لوسوسة شيطان خاطف، حينها تدرك يقيناً أن هناك خطراً يجب أن يُزال في الحال.

**

كتبت منشوراً على "فيس بوك" حول قضية ما، فأرسل لي صديق كريم ممن لا يزال هناك في المحافظات المحتلة، يقول: "نحن هنا محاصرون من كل حال، إن خرجنا للبحث عن طعام لصغارنا اختطفونا بتهم جاهزة، وإن مكثت في بيتك ستموت من الجوع مع صغارك، لا مرتبات ولا رحمة لدى هذه العصابة الإجرامية، فمتى ستنقذنا الشرعية"؟!

هكذا ختم صديقي رسالته بسؤال مدوٍ!

 

**

منذ خمسة أشهر لم يستلم الجيش الوطني مرتباتهم، رغم أن التصريحات التي أطلقتها الحكومة تملأ الآفاق، والتبريرات كثيرة وغير واقعية البتة، على الأقل لا ترقى إلى عشر معشار ما يعانيه بطل في الجبهة أو مناضل تحت نيْر الاحتلال الفارسي، ومع ذلك لا تزال الجهات الرسمية تعتمد آلية معقدة في صرف المرتبات، نتج عنها الكثير من الخلافات والإشكاليات، وفتحت الأبواب والنوافذ والمنافذ لمن يعمل على خلخلة الصفوف، وبدلاً من أن تسد جوع الأبطال، فتحت فرصاً سانحة للمتربصين الذين تلقوا هزائم منكرة في كل الجبهات أمام سواعد هؤلاء الأبطال. فتحت لهم الآلية البطيئة مصاريع إثارة البلابل وخلق الفوضى وإذكاء الفتن ودس سموم المناطقية وتوسيع الفجوة بين القادة والجنود بآلية لا تتناسب مع بيئة الحرب، يخجل منها الخجل حين يعلم أن هذا الجندي لم يستلم راتباً منذ خمسة أشهر وهو يؤدي واجبه!

**

وفي سجون المليشيات العبثية الإرهابية تخرج كل يوم حكاية تندى لها الجبين، عن التعذيب الوحشي الذي يتعرض له أبطالنا خلف القضبان، في ظل حقد قذر وانتقام عفن مدفون منذ نصف قرن، حقد مدموج ممزوج بكراهية المخلوع وكهنوتية الإمامة القادمة من مزبلة التاريخ، في ظل تباطؤ مؤسف واهتمام باهت من قبل الحكومة الشرعية.

**

وهو ما يدفع للتساؤل عن جدوى الحكومة وما دورها اليوم!

وحتى لا نغرق في التفاصيل، وندخل في الفوضى، فإننا لا نزال في حرب، والحرب شنتها علينا عصابة إجرامية إرهابية بتواطؤ مفضوح من بعض الأطراف الدولية، وهي التي تحاول اليوم ملء أسماعنا ضجيجاً عن الجوع والجوعى من أجل المناورة الرخيصة والابتزاز السيئ والعبث الفاحش بأوجاعنا ومآسينا، فلم يعد سراً أن أصوات هذه الجهات الدولية ترتفع بالعويل والتباكي على الجوعى كلما اقترب الجيش الوطني مسنوداً بالتحالف العربي من تحرير ميناء الحديدة والساحل الغربي، وهو ما يكشف طبيعة الدور التآمري الذي تلعبه هذه الأطراف.

 

وبعيداً عن جلد الذات وعن التلاوم، فهذه دعوة جادة وطارئة للحكومة الموقرة، بتشكيل فريق احترافي خفيف الحركة متقد الذهن يقظ الضمير وتكليفهم بإدارة ملفات الحرب ومتطلبات المرحلة، نحن بحاجة فريق من القادة، نفر من الرجال الاستثنائيين يدركون أولويات شعبنا وجيشنا وبلدنا ويقومون بواجباتهم ومسؤولياتهم في استثنائية تتناسب مع المهمة الوطنية التي تنتظرهم!

**

لست في معرض تقييم أداء الحكومة الحالية، فنحن ندرك الظروف التي تمر به، ندرك التحديات التي تجابههم، غير أن عليهم أيضاً أن يدركوا أنهم "حكومة حرب" فليسوا في وضع طبيعي ليتعاملوا بشكل طبيعي، ولا هم منزوعي الصلاحيات حتى يتحججوا بحجج باهتة لا يمكن أن تشفع لهم بأي حال من الأحوال، والتاريخ يسجل الأدوار والمواقف بأمانة وصدق.

نعم ليس الوقت مناسباً للتقييم، ولا هناك ما يسعفنا لفعله، نحن نسعى إلى وخز ضمائر الأخوة الوزراء في الحكومة ليعيدوا ضبط أذهانهم على أنهم "حكومة حرب"، وأن من أوجب واجباتهم الإسعافية والضرورية إغاثة النازحين وإنقاذ المختطفين وعلاج الجرحى ورعاية أسر الشهداء ونحر الانقلاب قبل أن ينتحر المحاصرون في أرزاقهم وبيوتهم وحالهم ومالهم، هذه الأولويات يا معالي الوزراء، وهذه أوجب الواجبات يا "حكومة الحرب".

**

وحكومة الحرب يجب أن تقترب من احتياجات الجنود الأشاوس، ترفع معنوياتهم، وتلبي احتياجاتهم، وتنتج لهم ما يملؤهم بالحماس وهم يقومون بدورهم الوطني الجليل في هكذا لحظة فارقة وحساسة من تاريخ الوطن والأمة.

حكومة الحرب عليها أن تدرك أن الذين يقذفون بأنفسهم للخطر، ويرمون بمهجهم للتضحية، يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله والوطن والمصير.. عليها أن تدرك أن بعض هؤلاء يقاتلون حتى يتم استعادة دولتهم بعد كسر الإنقلاب، ثم سيعود المدرس إلى مدرسته والطبيب إلى عيادته ومدير البنك إلى مكتبه المكيّف وقد أدّوا ما عليهم بفيض من الحب لا يحبطون جهادهم ونضالهم بالمنّ والأذى!

عليها أن تدرك ذلك وستدفع لهم مستحقات الرواتب بطيب خاطر تبادلهم الوفاء كما يفعلون.

 

نحن لا نريد منكم بذل ما لا تطيقون، معاذ الله، غير أننا نعلم جيداً ونثق أنكم بإمكانكم فعل ما عليكم إذا قمتم بمسؤولياتكم كحكومة حرب تعمل وفق الأولويات والاحتياجات، وتسد الثغرات وتعزز صمود الأبطال في الجبهات، وتلبي نداء المواطنين الذين يرزحون تحت المعاناة في ظل سيطرة العصابات الإرهابية من مليشيات الحوثي والمخلوع.

 

غير معقول أن تدخل الحرب عامها الثالث ويرتفع أنين الجرحى إلى الآفاق ولا تجد لوزير الصحة حضوراً ولا أثراً في ملف الجرحى ظاهرا أو باطنا!

غير معقول أن تظل حقوق الإنسان بلا وزير يستكمل ملفات المضطهدين ويدافع عن المعذّبين ويضغط على ضمير العالم المنافق لإنقاذ المختطفين.

غير معقول أن يظل السلك الدبلوماسي والسفراء وقناصلنا في كل بلدان العالم معزولون عنّا في حياد عن أوجاعنا، وكأنهم يتبعون خارجية دولة شقيقة أو جمهورية "بوركينا فاسو"، غير معقول ولا مقبول!

وغير معقول هذا البرود الذي لا يزال يتعامل به بعض المحافظين تجاه القضايا الوطنية الحساسة والمصيرية!

غير معقول أيضا أن يظل الإعلام تائهاً عن القضايا الرئيسية، بينما تطيش أسهمه شرقا وغرباً في مرحلة بالغة الصعوبة والخطورة والمسؤولية!

ما نحتاجه اليوم مكتب مصغر لأبطال فدائيين يتحملون مسؤولياتهم بصدق وإخلاص، مكتب مصغر يسمون أنفسهم "حكومة حرب" يلعبون دوراً استثنائياً في هكذا مرحلة خانقة، ينقذون الشعب من أقصاه إلى أقصاه، يرممون أوجاع النفوس الغائرة، يطببون جراح الوطن النازفة، يقدّمون الإنسان والإنسان وحده على كل اهتمام، يؤمنون بما عليهم ويحترمون تاريخهم وحاضرهم ويغامرون بأنفسهم من أجل شعبهم وأمتهم ودولتهم.

نحتاج هؤلاء مثل حاجتنا للتنفس في أجواء خانقة، نحتاج "حكومة حرب" سيادة الرئيس، حكومة تخلق لكل مشكلة حل، لا أن تكون مشكلة فوق ركام المشاكل!


في السبت 22 إبريل-نيسان 2017 06:22:32 م

تجد هذا المقال في موقع التجمع اليمني للإصلاح
https://alislah-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://alislah-ye.com/articles.php?id=97