|
كسابقاتها من الثورات المجيدة كتب لها الخلود، ولدت لتبني صرح ذكراها على أنقاض الطغيان، وجدت لتبقى على جبين التاريخ مشرقة ناصعة كشمس الضحى بنورها ونارها ووهجها الوقاد، معلنة ميلاد انطلاقة جديدة بعنفوان لا ينكسر وعزيمة لا تلين.
هكذا هي الأيام الوطنية تظل خالدة في وجدان الشعوب، لأنها انبثقت من الضمير الإنساني المجبول على الحرية والكرامة إذ لم تات ترفا أو بذخا حركيا أو حالة عابرة أو رغبة بالفوضى، بل امتداد لثورات وخطى لثوار وقيامة أمة.
من رحم المعاناة انطلقت الثورة، ومن بين رحى الظلم اشتعلت شرارتها، ومن عنفوان الليل بزغ فجرها، ومن وطأة الظلم شمخت رؤوس الثوار، ونبا شعب عظيم يتوق إلى الكرامة وينشد الحرية متمردا على الاستبداد المتوارث لعقود من الزمان.
ثورة 11 فبراير درة الثورات اليمنية، فهي أكثرها نضجا وأوضحها رؤية وأوسعها تأييدا وأكثرها إجماعا، فقد امتدت خيوط شمسها لتعانق كل ربوع الوطن من صعدة شمالا إلى عدن جنوبا، ومن حضرموت شرقا إلى الحديدة غربا، متخطية كل الفوارق والامتيازات.
لقد أتت الثورة كحل أخير مع سلطة مارست الظلم والاستبداد والفساد بحق أبناء الشعب اليمني طيلة عقود من الزمن طغت على كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، سلطة مارست القمع والتنكيل ومصادرة الحقوق والحريات فكانت هذه الثورة.
محافظة إب كانت واحدة من كبريات المحافظات التي احتضت الثورة ونسجت تفاصيلها بأحرف من نور وسطرت للعالم وللأجيال القادمة دروسا تفوق الخيال، وعكست صورة أكثر ألقا وجمالا بسلميتها وتحضرها ورقي أبنائها.
هب الشباب بمختلف مستوياتهم لمناصرة الثورة وتداعى معهم مئات الآلاف من أبناء المحافظة من جبالها وسهولها وقراها ومدنها متجشمين الصعاب متجاوزين العراقيل متخطين الحواجز متحدين العواقب منطلقين بروح المسؤولية ومبادئ التضحية، ليكون أحد أبنائها أول شهيد يرتقي في هذه الثورة، إذ لم يكتف أبناء المحافظة برفد مخيمات المحافظة الثلاثة وتعزيز المسيرات المليونية، بل غصت بهم مخيمات الاعتصام في مختلف المحافظات وأبرزها ساحة التغيير في العاصمة صنعاء.
الفوارق والطبقات والامتيازات كانت الأكثر تلاشيا والأكثر غيابا عن المشهد الثوري ليصبح "خليج الحرية" الساحة التي احتضنت الثوار بيتا تنتمي إليه كل شرائح المجتمع ويأتي إليه كل أبناء المحافظة بمختلف ألوانهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية والأسرية ليشكلوا نسيجا واحدا أكثر ترابطا وأكثر تماسكا.
لقد كانت ساحة الاعتصام المعروفة بـ"خليج الحرية" أكاديمية لإعداد القادة وحلقات للتحفيظ ومنبرا لإلهاب المشاعر وصرحا للعلم وقاعة للدروس والدورات وملتقى للتعارف ومحضنا تربويا للشباب وصالة للفن بمختلف أنواعه بل ومائدة للفقراء.
التأييد الواسع والقبول المجتمعي لهذه الثورة عكسته المسيرات المليونية التي كان ينظمها شباب الثورة ويدعون لها، فكانت تحظى تلك الدعوات باستجابة كبيرة واهتمام بالغ لتشكل تلك الجماهير المتدفقة سيولا بشرية هادرة وبصورة لافتة خطفت الأضواء وجذبت عدسات المراسلين واستهوت أقلام الصحفيين.
سلمية هذه المسيرات ومستوى التنظيم ورقي الشباب المشاركين فيها كان هو العنوان الأبرز لتلك المسيرات، حيث كانت إب أكثر محافظة يحتشد فيها الثوار في كل مسيرة تنطلق وكانت شوارع المدينة تكتظ بالحشود التي مثلت نموذجا فاق جميع المحافظات.
وبالرغم من هذه الحشود الهائلة التي كانت تجوب شوارع المحافظة المكتضة بالأسواق والمحال التجارية والبسطات، حرص الشباب على سلمية تحركاتهم وحافظوا على الممتلكات الخاصة والعامة وكانوا نموذجا للسلوك السلمي والتعامل الراقي الذي أضفى على هذه المسيرات المزيد من الجمال.
المشايخ والوجاهات الاجتماعية والذين يمثلون البوصلة السياسية في أغلب المجتمع كانت لهم مواقف مشرفة تجاه الثورة الشبابية السلمية، إذ كانوا أكثر تفاعلا وأكثر نضجا وإيجابية، فقد وجد النظام البائد نفسه في عزلة مجتمعية وقطيعة سياسية نتيجة المواقف الموحدة المناوئة له من قبل أغلب هؤلاء الوجاهات ورفضهم للإملاءات المصحوبة بالإغراءات التي كانوا يتلقونها من أزلام النظام وأمنه القومي، وكانت تمثل الانضمامات شبه اليومية المعلنة على منصة خليج الحرية لهؤلاء المشايخ والوجاهات وأمام كاميرات وسائل الإعلام تحديا حقيقيا للنظام وإعلانا صريحا وتأييدا واضحا ومساندة حقيقية للمعتصمين السلميين المطالبين بالعدالة والديمقراطية والحرية والكرامة.
تفاصيل الثورة في محافظة إب ومسيرتها التحررية عكست الوجه الأنصع والجانب المشرق للثورات العربية المشتعلة في تلك الفترة.
فبالرغم من كثرة الاعتداءات التي كان يتعرض لها شباب الثورة والاستفزازات المتكررة والاستهداف والقنص المتعمد من قبل من كانوا يسمون بـ"البلاطجة" والذين كان يستأجرهم النظام السابق عبر نافذيه وقياداته الأمنية والعسكرية والمحاولات المتكررة لاستدراج ثوار المحافظة وجرهم إلى مربع العنف، إلا أنهم وبكل صبر واقتدار ونضج ووعي ثوري وحس أمني وإدراك لحجم المؤامرة وخطورتها استطاعوا أن يحافظوا على مسار الثورة ونهجها السلمي، رغم أن محافظة إب هي واحدة من المحافظات اليمنية التي ينتشر فيها السلاح بين المواطنين.
المرأة الإبية كانت حاضرة في المشهد بشكل ملفت أيضا وبصورة لا تقل جمالا وروعة، فقد كان لها دورا نضاليا بارزا لم يقل عن دور أخيها الرجل منذ بدايات الثورة وإرهاصاتها الأولى، وقد نظمت المرأة عدة احتجاجات مناصرة للقضايا الوطنية واعتصامات ومسيرات ووقفات احتجاجية ومهرجانات نسوية، وكانت بجانب مشاركتها بنفسها وجهدها ومالها وصناعة الغذاء والتطبيب في الساحة سهلت أيضا لزوجها أن يستمر بالساحة وتحملت عنه شؤون البيت، وشجعت أبناءها على الالتحاق بالثورة وعلمتهم معاني الوطنية، وخصصت من وقتها للثورة وأضربت ووعت غيرها وعلمت طلابها معاني الثورة والحرية والكرامة، وقدمت لذلك التضحيات وتحملت المتاعب والأعباء.
منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والقيادات الحزبية وأساتذة الجامعات وقطاع عريض من الموظفين لم يتخلفوا عن هذه الثورة، وكان لهم شرف الالتحاق بها، بل كانوا الحلقة الأكثر أهمية والمكون الأبرز من مكونات الثورة.
رجال المال والأعمال لم يكونوا بمنأى عن الثورة الشبابية السلمية بل كانوا في طليعتها، وشكل حضورهم الركيزة الأساسية والسبب الأهم في استمرارية الثورة وبقائها في أوجها وعنفوانها من خلال الدعم المتواصل واللامحدود للمعتصمين، وكانت لهم إسهامات في توفير المواد الغذائية وإعداد الطعام للكثير من المتظاهرين.
وقد كان لأبناء المديريات المجاورة إسهامات كبيرة في دعم إخوانهم المعتصمين من خلال تجهيز القوافل الغذائية وتسيير العديد منها بالرغم من الحالة المادية المتدهورة للكثير من الأسر السباقة لإعداد وتجهيز تلك القوافل.
هكذا انتفض ثوار محافظة إب معلنين ثورتهم ومؤكدين على خيارهم الثوري لتحقيق أهداف ثورتهم المجيدة ومبايعين شهداء هذه المحافظة الذين رووا بدمائهم الزكية أرضهم المقدسة، وما زالت قوافل الشهداء تمضي تباعا، إذ قدمت المحافظة ما يربو على ألفي شهيد وآلاف الجرحى منذ انطلاقة الثورة في 11 فبراير وحتى هذه اللحظة.
ما زال التخلف والاستبداد بأشكاله الجديدة المتنوعة يقف حجر عثرة أمام مسيرة الثورة لنيل مطالبها وتحقيق أهدافها، وما زالت الثورة في ريعان شبابها لا تلوي على شيء مما يعيقها من مخلفات الكهنوت والاستبداد، جاعلة نصب عينيها أهداف الثورة ماضية نحو فجر الحرية.
إنها ثورة نفضت الغبار عن ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وكشفت حجم التدمير الذي لحق بقيم الثورة اليمنية، وحجم الاستهانة والامتهان بقيم التغيير التي قدم لأجلها الأجيال الثائرة أرواحهم الطاهرة، وسكبوا على تراب الوطن للانتصار دماء زكية غزيرة، ورسخت بنهوضها أرضية الثورة اليمنية، وأصلت على أساسها مسارها الجديد، وصولاً إلى الدولة المدنية.
في الخميس 13 فبراير-شباط 2020 08:54:48 ص