بعيداً عن السياسة ..قريباً من الطين والنار
أحمد عثمان
أحمد عثمان
  

مضطر أن أجاريك يا محمد المياحي وأقف معك قليلاً بعيداً عن السياسة وقريباً من الطين والنار، وأنت تكتب عن الجن بأسلوب الباحث عن وطن جديد وأهل من نوع مختلف؛ فهؤلاء أصحابي أيضاً، ولنا صلة قرابة معهم من أيام الهدهد والملك سليمان، وما زالت آثارهم عندنا في حصن الجن بجبل الراهش وهيجة تماج وضاحة الركب.

 

الشاعر والأديب يملك روحاً شفافة تميل بعيداً عن الطين؛ الطين ثقيل وموحش وتحته يكون الغباء وتنبت الكراهية والتوحش، ولهذا لا تجد جنياً متوحشاً؛ لأنهم ليسو من الطين، هم مخلوقات شفافة لا تميل إلى الحرب ولا حركات العنف ولا صلة لها بالغدر. هي تتحرك دغري وبحذر شديد وبقانون دقيق، وأكثر ما تخافه الجن هو الإنسان.

الإنسان مخلوق مخيف ومرعب، وهو من أشرس السباع على الأرض. الرحمة لديهم صعب ولا تجدها إلا عند مقام الفائزين منهم وهم النادر.

أعني أن من يبحث عن (جن) على طريقة الشعراء هو مخلوق فلسفي ذو نزعة روحية غيبية، تنزع نحو الغيبيات الخالدة التي تجد لها أصلاً في روح الإنسان منذ أن طلع آدم من دار الروح والخلود.

وما نراه من ميل إلى التوحش عند الإنسان إنما جاء نتيجة الشعور بالغربة، بل والاحتباس في مكان ضيق يسمى الأرض، وهي أصغر من الإنسان ومن طموحه؛ لذا لا يكفيه شيء. طمعه يتجاوز مساحة الكوكب الأرضي والمجموعة الشمسية ولاشيء يسكت طمعه ويرعبه وينهي توحشه سوى التراب. لديه خصومة مع الطين والزمن. الطين يصيب الإنسان بالغلظة والتوحش، وسرعة الزمن يصيبه بغربة موحشة، وشعور التلاشي والفناء لأنهما؛ أي الطين والزمن يحجبان عنه الرؤية؛ ولهذا يتلبس الإنسان فضول للاطلاع على الجن ظناً منه أنه سينفذ من خلالهم إلى شيء من اليقين والمعرفة التي تتنازعه بفعل خاصية الروح والخلود. ولأنهم بإحساسه الأقرب إلى العالم الآخر، أقرب من الملائكة مثلا، على الأقل يشعر أنهم بمستواه أو دونه، ولهذا يتوقف الكثير عند عالم الجن. ففي كل الأمم والعقائد قصص ومحاولات خرافية مع الجن تستوي الشعوب المتقدمة والمتخلفة.

الآن محمد المياحي يريد أن يعانق الجن من أجل الهروب من فحيح الإنسان ومن أجل كتابة الشعر وكأنه كاهن يدق أبواب الجبال لفتح الضياح المسكونة بالصمت والظل والجن. يقترب منهم ويصافحهم ويتزوج. لم يعد يخافهم، فهو شاعر ولديه أجنحة كأجنحة العفاريت الطائرة، فالشعر ليس رص كلمات، وإنما ما يقوله وهذا النوع من الشعر تشارك في كتابته الجن بلسان الشاعر!

 

الجن أقرب إليك مما تتصور، وأنت عندما تجاهر برغباتك هذه إنما تكشف على أن هناك جنياً متمرساً وشفافاً داخلك ويستأنس بك، بل ربما دعا أهله و أقرباءه وقبيلته في السكن معك وفيك، لمعرفته أن نسبة الطين لدى الشعراء قليلة؛ فالجن يخافون من الطين لأنهم مخلوقات نارية يخنقهم الطين ويفزعون من الترابيين، أعني أنهم ربما يسكنون على ضفافك، بالتحديد في جسدك المترامي الأطراف. بالنسبة للجن فجسدك واسع، واسع يشبه مساحة الربع الخالي أو قارة لحالها؛ فالجن مخلوقات ليست طينية ومتناهية الصغر ولا معنى عندها للأحجام والكتل والمساحات، ممكن تسكن داخل مساماتك آلاف الجن مدينة كبيرة تتحرك داخلك ويعيشون حياتهم الخاصة الفسيح كوطن.

لكنهم لا يسكنون إلا بقانون، فهم لا يسلبون ولا ينهبون ولا يحتلون جسداً إلا بقانون وعرف معلوم. أنت ربما الآن وطن للجن دون أن تعرف. المعرفة هذه هي علم الغموض؛ فهناك أشياء نعرفها وتبعد عنا آلاف الكيلو مترات، بينما لا تعرف عن أشياء ومخلوقات داخلك وفيك.

 

أتحسب أنك جرم صغير

و فيك انطوى العالم الأكبر؟!

 

هذا البيت الشعري قاله جني حكيم على لسان شاعر خفيف الطين.

 

كثير من الإبداعات الشعرية التي نقف عندها مبهورين هي من قول الجن عندما يسكنون وطناً بشرياً يجدون فيه مواصفات الوطن. ألم تسمع قول حسان بن ثابت:

 

ولي صاحب من بني الشيصبان

فطوراً أقول وطوراً هوه

 

ربما لم أكتب البيت كما هي لا أدري لكنها مسؤولية الجن.

 

أنا أكتب هنا رداً على منشورك العجيب عن الجن، وكل منشوراتك عجيبة يا محمد لأنني أجد كثيراً من كتاباتك التي يعدها البعض جنوناً تتحدث عني أنا الذي تربيت مع أمي في بيت وحيدة، على سفح جبل تحيطه مزارع أبي والرباح والضباع والأرانب وطير العقاب وقصور الجن الشاهقة المسمى (الضياح)، التي يهتز فيها الصمت وينشد فيها الريح القادم من وراء الشمس أغنية الخلود، ويهمس لي عند السحر وتساقط المطر عن حكايتي الأزلية، وعن تاريخي مع الغمام المحملة بالغيث وعن علاقتي الحميمة بالنجوم والكواكب السيارة، بل ويحدثني بإسهاب عن شبابتي التي غابت عني عند الطفولة وصعدت على بساط الغمامة بمساعدة الريح نفسه حيث استقرت تحت العرش تردد الحاني الحزينة!

أنت لا تعلم أن بعض ألحان شبابتي يرددها الريح عندما يهب ليلاً في الصيف، في وقت تتهيأ فيه أسراب الطيور إلى الهجرة، وعند بداية فصل الخريف حيث تتساقط الأزهار و أوراق الأشجار الدامعة، حينها ألتقي مع الريح في حوار علوي خاطف، وهو ما يشدني بعيداً ويحررني ولو للحظات من ثقل التراب ولزوجة الطين ووحشة الإنسان.

 

لا أدري هل لدي جني قريب لصاحبك، لكن ما أعلمه أننا جميعاً في البحث عن الذات ومحاولة مستمرة في التحرر من قفص الطين، هذا الطين أثقلنا كثيراً ويكاد ينهي فينا نفخة النور. أنظر إلى الإنسان كم هو متوحش ومجنون بصورة جماعية يقتل ذاته بشكل قاسي وغير مبرر. إنه مصاب بالشر أصبح مخلوقاً شريراً يعوي شرا تجاوز مقام السبعية، فالسباع لا تقتل إلا لتشبع، بينما الإنسان يقتل من أجل القتل، ويقتل ليدمر نفسه وكل من حوله.

هل هذا مس جنون بفعل الشيطان الرجيم؟ أم ضربة توحش بفعل الحالة الطينية التي يعيشها كسجين تواق للتحرر، فيضرب نفسه من شدة الضيق وغياب اليقين وضياع البصيرة، مثل ضربات الموت؛ ضرب عشواء؟!

 

نسيت يا صاحبي أن أخبرك أنك تعني بالشيطان اللطيف جني لطيف، يوجد جني لطيف ولا يوجد شيطان لطيف؛ لأن هذه السلالة اللعينة انسلخت من اللطافة عندما ارتبطت بالإنسان واقتربت من كثافة التراب ولزوجة الطين اللازب، ونقلت إلى الإنسان جرثومة العنصرية المدمرة باسم الدين تارة وباسم التراب تارة أخرى!

نسيت أن أقول لك أيضاً هذا المقال (الجني) يخصك والجن اللطفاء، أصحابك لكن إياك أن تتخلص منه يوماً بتمزيقه فسيجلب عليك الشياطين، واحذر أن ترميه في التنور لإحراقه فسيخرج لك عظروط يلتهمك، لكن إذا أردت التخلص منه، فاطرحه بين التراب يتحلل وتأكله الأرضة.

 

أما أنا فسأظل أتعوذ بالله من شر الشيطان والإنسان الرجيم ما حييت!


في الأحد 10 سبتمبر-أيلول 2017 07:02:02 م

تجد هذا المقال في موقع التجمع اليمني للإصلاح
https://alislah-ye.com
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://alislah-ye.com/articles.php?id=188