|
في مطلع العام 2011؛ أكثر الأعوام تأثيراً في حياتي الفكرية والسياسية وحياة الكثير من شباب الثورة.
كنت اقرأ في شارع الدائري، في ليالي الثورة، الاستراتيجيات العشر لخداع الجماهير للمفكر الشهير نعوم تشومسكي، كان ذلك في نهاية مارس، تحديداً بعد جمعة الكرامة بأسبوع واحد، وكانت الثورة حينها في ذروتها وفي المرحلة الأكثر ضجيجاً وجدلاً والهاءً نتيجة ما صاحب تلك المرحلة من انقسامات داخل معسكر النظام وداخل معسكر الثورة أيضاً على كافة الأصعدة..
في تلك المرحلة الحساسة كان تعميق الشعور بالخديعة أحد أسلحة النظام، وكنت أحاول، من خلال المعرفة، تفكيك ذلك الضخ الهائل من خداع الجماهير التي كانت تقوم به قوى من داخل معسكر نظام المخلوع، ومن داخل معسكر الثورة، عبر جيوب كانت تلتقي مع المخلوع في ذات التكتيك إن لم يكن ذات الهدف، وقد اتضح ذلك مؤخراً.
تركيزي حينها كان حول الاستراتيجية التي احتلت رقم واحد من سلم الاستراتيجيات العشر للخديعة عند تشومسكي، وهي استراتيجية الإلهاء، كانت لا تتطابق مع تلك المرحلة بحذافيرها، لكن بعضاً منها ضمن وسائل الخداع وتصلح للمقاربة والإسقاط غير الكامل ..
يقول تشومسكي: "إن الإلهاء عنصر أساسي للضبط الاجتماعي، تتمثل إستراتيجية الإلهاء في تحويل أنظار الرأي العام عن المشاكل الهامة والتحويلات المقررة من طرف النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك بواسطة طوفان مستمر من الأخبار اللامجدية".
إستراتيجية الإلهاء هي أيضاً لازمة لمنع الجمهور من الاهتمام بالمعارف الأساسية، في ميادين العلوم، الاقتصاد، علم النفس، وعلم التحكمية، وأنا ركزت على إلهاء الجمهور بواقع اللحظة الراهنة وتراكماتها ومسألة "الإبقاء على انتباه الجمهور، بعيداً عن اللحظة الاجتماعية الحقيقية والسياسية الذي ينبغي التركيز عليها، وكذا كيفية خداع الجماهير والإبقاء عليها مأسورة بمواضيع دون فائدة حقيقية. الحفاظ على جمهور منشغل، منشغل، منشغل، دون أدنى وقت للتفكير؛ ليرجع إلى ضيعة مع باقي الكائنات والعودة إلى ما قبل حلم الحرية، أو كما جاء في كلام تشومسكي نقلا عن نص "أسلحة كاتمة من أجل حروب هادئة"!
بعد سنوات هذه الأيام في زمان مختلف، وفي مكان مختلف أيضاً، عدت من جديد لقراءة تلك الاستراتيجيات لكن هذه المرة بالتركيز على استراتيجية أخرى هذه المرة، وهي الاستراتيجية التي تحتل رقم اثنين في ذلك السلم وهي خلق المشاكل، ثم تقديم الحلول وإسقاطاته على واقع اللحظة الراهنة في الجنوب ..
هذه الطريقة تدعى أيضاً "مشكلة-ردة فعل-حلول" نخلق أولاً مشكلاً، حالة يتوقع أن تحدث ردة فعل معينة من طرف الجمهور، بحيث يقوم هذا الأخير بطلب إجراءات تتوقع قبولها الهيئة الحاكمة؛ مثلا، ووضع جلبة سياسية للجماهير، أو تنظيم هجمات دموية، حتى يطالب الرأي العام بقوانين أمنية على حساب الحريات، أو: خلق أزمة سياسية اقتصادية لتمرير شيء معين يخص نخبة بعينها، بالمقابل تراجع الحقوق السياسية الاجتماعية وتفكيك المرافق العمومية وتأخير فكرة استعادة دولة الضمير الشعبي أو الدولة المنسجمة، كما عند ميشيل فوكو، وهي الدولة التي تنسجم فيها إرادة المحكومين مع إرادة الحكام دولة التوافق الديمقراطي أو دولة الديمقراطية الانتخابية المستقبلية بعد تحريرها من الانقلاب ..
على صعيد الواقعية السياسية، وربما الاجتماعية في الحالة اليمنية، تعرضت الجماهير في الشمال لأسوأ خديعة اجتماعية تتعلق فيما عرف بإسقاط الجرعة، والتي حملت بعضاً من ملامح الخديعة السياسية مثل تنفيذ مخرجات الحوار التي كانت ترفع إلى جوار لافتة الجرعة، لكنها ظلت في الهامش من المزاج الشعبي الذي كان يسعى خلف الخديعة الاجتماعية المتمثلة بالمصلحة الاجتماعية ضد ارتفاع الأسعار ..
صحيح أن السلطة ساهمت - بشكل أو بآخر- في الخديعة من خلال إنزال الجرعة في توقيت سياسي بالغ الحساسية، وساعدت الانقلاب في ممارسة تلك الخديعة التي تحولت في بعد إلى ما يشبه الطعم الثقيل الذي ابتلعه الجميع من الانقلاب إلى الدولة إلى الشعب الدافع الأكبر لثمن ذلك الطعم ..
الجماهير في الجنوب تعيش في اللحظة الراهنة خديعة سياسية بالغة الملامح تشبه تلك الخديعة الاجتماعية الذي تعرضت لها الجماهير الواسعة في مرتفعات شمال الشمال تحديداً كانت العاصمة صنعاء مسرح الخديعة الأكبر، وكان يشكل صالح الظل السياسي الخفي لتلك الخديعة مسنوداً بقوى إقليمية بعينها، بينما شكل عبد الملك الحوثي مرجعية دينية عليا مسنوداً بقوى إقليمية بعينها، وشكل صالح الصماد الواجهة المباشرة لتلك الخديعة التي تعرضت لها الجماهير ..
ذات الأمر يتعلق بالخديعة السياسية التي تتعرض لها الجماهير في مرتفعات الضالع، وتشكل العاصمة المؤقتة عدن مسرح الخديعة الأكبر لها، ويشكل عيدروس الزبيدي الواجهة المباشرة لها مسنود من قوى إقليمية بعينها وبن بريك مرجعية دينية لتلك الخديعة، بينما لا أستطيع التكهن -حتى هذه اللحظة- من الظل السياسي الخفي لتلك الخديعة، وأحتفظ بتوقع لنفسي ربما أتحدث عنه في الأيام القادمة ..
طبعاً تتوزع جماهير الخديعة في مستويات عديدة، بحسب الكيفية الذهنية، وليس الكمية الجماهيرية، إذا ما تعلق الأمر بمضمون ذهنية جماهير الخديعة.
بسبب انشغالي في عمل يومي لم أتمكن من التفرغ الكامل لتحليل مضمون كافة المستويات الذهنية لجماهير الخديعة الاجتماعية في شمال الشمال أيام الانقلاب الذي تمخض عنه المجلس السياسي في صنعاء، ولم أتمكن من التفرغ لتحليل مضمون كافة المستويات الذهنية لجماهير الخديعة السياسية في الجنوب الذي تمخض عنها المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، وسأكتفي بتحليل نمط واحد، كما أراه من وجهة نظري ومقاربتي الشخصية التي لا أدعي منهجيتها بقدر ما هي مقاربة تخصني.
ذهنية الفئة السياسية التي تدعي العقلانية في الجنوب، والتي انساقت وراء الخديعة بدعوى أن المجلس الانتقالي الجنوبي ورقة ضغط سياسية مهمة لنزع الحق في الشراكة السياسية داخل النظام السياسي الجديد التي تدعي أنه ذهب لتهميش كوادر محسوبة على فصيل سياسي جنوبي بعينه ..
هذا الأمر يتم نسفه، ويتضح أنه خديعة سياسية؛ كون العديد من الأسماء التي شملها مجلس عيدروس شريكه في بنية النظام السياسي الجديد في مناصب عليا بينهم وزراء ومحافظو محافظات ووكلاء.
هذه العينة أنموذج لحجم الخديعة السياسية التي استهدفت ذهنية عقلانية على قدر جيد من التفكير تقصيتها بذاتي من خلال عينات ذات تفكير سياسي جيد، من وجهة نظري، بحثت عنها بجهود ذاتية لتسليط الضوء حول حجم الخديعة السياسية التي تتعرض لها الجماهير في الجنوب بشكل عام وفي عدن تحديداً على غرار الخديعة الاجتماعية التي تعرضت لها الجماهير في الشمال وفي صنعاء تحديداً..
خداع الجماهير بتوجهات أمنية وسياسية واجتماعية، أبرز وسائل الثورات المضادة والانقلابات التي يتم تغذيتها إقليمياً ودولياً، وهذا أمر سأحاول تحليله إن تمكنت من ذلك في المستقبل.
في الثلاثاء 11 يوليو-تموز 2017 01:00:44 ص