الجمعة 29-03-2024 09:25:57 ص : 19 - رمضان - 1445 هـ
آخر الاخبار
تاريخ الحركة الوطنية..إطلالة تاريخية 1
بقلم/ د. ثابت الأحمدي
نشر منذ: 7 سنوات و شهرين
الخميس 26 يناير-كانون الثاني 2017 11:58 ص

من المحكي الشعبي هذه القصة التي تقول أن رجلا وزوجته كانا ذاهبَين إلى السوق بحمارهما، وفي الطريق وجدا كفيفا يترجل بعصاه، أشفقت الزوجة عليه، فاقترحت على زوجها أن ينزل من ظهر الحمار ليركب هذا الكفيف، فاستجاب لها بدافع الشفقة. صعد الكفيف، وكانت المرأة تقود الحمار والزوج يسوقه من خلفه. ووصل الثلاثة مع حمارهم إلى السوق، وهناك كانت المفاجأة. كان الكفيف لئيما بما يجعل قصته هذه درسًا لكل من بعده. صاح وسط السوق، مستغلا عماه وتجمهر الناس: الحمار حماري، والزوجة زوجتي، وهذا الرجل يريد أن يسلبني إياهما، مشيرا إلى الزوج، صاحب الحمار والذي رقَّ له وأشفق عليه.! ووسط فضول الناس ودهشة العامة أوسعوه ضربا ولكما. يا له من فاجر..! يريد أن يسلب الضرير زوجته وحماره.! ولم ينفعه صراخه أن الحمارَ حماره والزوجة هي زوجته أصلا. 

تم جرجرة الكل إلى حاكم السوق، والكفيف مُصرٌ على دعواه. أمر الحاكم بسجن الثلاثة ومراقبة سلوكهم داخل السجن. وفي السجن سُمع الكفيف وهو يردد بلهجته الشعبية: "إن سبرتْ هي مَرَه وحمار، ما سبرت يا هداراه يا هدار.."! أي: إن نجحتُ في دعوتي فقد فزت بزوجة وحمار. وإن لم فهو كلام في كلام، ولست خاسرا شيئا..
تذكرتُ هذه القصة وأنا أستحضر تاريخ الحركة الوطنية اليمنية من أقاصي الذكريات العميقة التي تمتلئ بها بطون الكتب. ونضالات اليمنيين عبر الزمن في وجه طغمة حاقدة ترى نفسها من طينة أخرى ودم مميز. وكيف سطا الدخيل على "حمار فاعل الخير" وعلى ممتلكاته، مدعيًا أحقيته بها..!


أقول: في تاريخ الحركة الوطنية اليمنية من النضال ما يفوق غيرها من كل الحركات الوطنية في بقية شعوب العالم، زمانا ونوعا. كما وكيفا.. لا لشيء إلا لأن خصم اليمنيين عبر التاريخ قد أضاف إلى لؤمه حقد القرون الغابرة، خلافا لكل الخصوم الذين يكتفون عادة باللؤم والخبث السياسي. ولم يجتمع على اليمنيين من محن الزمان وصروف الدهر مثلما اجتمع عليهم من لؤم خصومهم الإماميين وحقدهم أبدا.
في ضحوة يوم ما من التاريخ الإسلامي استقبل اليمانيون أخوة لهم ظلمهم بنو عمومتهم بصورة وحشية، وقد شردوهم وفرقوهم شذر مذر في كل الأصقاع، وعاملوهم معاملة الكريم للملهوف، غير أن الضيف لم يكن على مستوى الكرم؛ بل بدا حالهم كما قال الشاعر:
إن الصنيعة للأنذال تفسدُهم كما تضر رياحُ الورد بالجُعل
و "الجُعَل": اسم دويبة صغيرة من الهوام تهزل إذا عاشت بين مغارس الورود. وتنعم إذا عاشت بين الدِّمن والأحراش.!
قتلهم الأمويون.. شردهم العباسيون.. تعامل معهم الأعاجم بنوع من الدونية.. فكانت اليمن الملجأ الفسيح والمنزل الرحب، ولا تزال.
على حين غرة من ترنح المجد اليمني الباذخ استطاع هؤلاء ـ وبتخطيط ماكر ـ أن يكونوا على رأس المجتمع، ومع هذا لم يأنف اليمنيون لذلك، فقد تقبلوهم إخوة، لهم ما لليمنيين، وعليهم ما عليهم؛ إلا أن ذلك ما لم يكن، وما لم يقبلوا به أصلا.!


على أية حال.. ارتبط النضال والكفاح والمقاومة في اليمن بمجيئ هذه الجماعة الدخيلة على اليمن، لا أقول دخيلة بجنسها فحسب؛ بل وبفكرها الوافد، فاليمن، والمنطقة العربية كلها لم تكن تعرف شيئا اسمه الحق الإلهي في الحكم، ولم تكن تقدس أسرة ما أو سلالة من السلالات قبل الإسلام أو بعده. فكل هذا من الثقافة الفارسية المجلوبة والوافدة مع الرسي وجماعته الطبريين الذين مثَّلوا عنصرا غريبا في الجسد اليمني، بُغية صناعة مجدهم السلالي المُمنهج والمدروس بعناية على أساس من نظرية الاصطفاء، في طريق الانتقام من العرب بوجه عام واليمنيين بوجه خاص الذين كانوا أبطالا في القادسية التي سقط فيها مجدهم الكسروي. كما أفصح عن ذلك المؤسس الأول يحي بن الحسين، حين بعث إلى بني عمه في بلاد الجيل والديلم رسالة مطولة، ومنها شعرا:
كذلك أنتم يا آلَ أحمد فانهضـُــــوا بجيش كسيلٍ حدرته الجراشع
فما العز إلا الصَّبر في حَومة الوغى إذا برقت فيه السُّيوف اللوامع
هل الملك إلا العز والأمر والغنى وأفضلكم من هَذبته الطبـَــائع
بنيتُ لكم بيتًا من المجد سُمْكه دوين الثريا فخرُه مُتتابع
ألم تعلموا أني أجودُ بمهجتي ومالي جميعًا دونكم وأدافع
فما أحدٌ يسعى لينعش عزكم سواي وهَذا عند ذي اللب واقع
متهكما من اليَمَن واليمنيين، وسَاخرا منهم:
بني العم إني في بِلاد دنيَّةٍ قليل وداها، شرُّها مُتتابع
وليس به مالٌ يقوم ببعضها وساكنها عريانٌ غرثان جائع
فإن لم تكافوني بفعلي فتُحسِنُوا فلا يأتني منكم ـ هُديتم ـ قطائع
وذات الفكرة حملها من بعده الإمَامُ أحمد بن سُليمان ـ أحد دهاقنة هذه النظرية الكبار ـ حيثُ يخاطبُ قومَه هناك في بلاد الجيل والديلم، وأيضا من يحمل معه نفس الفكرة، قائلا:
قوموا جميعا بني الزهراء وانتصروا مما أضَرَّ بكم من سَالف الزمن
إني نهضتُ للم الشَّمل شملكم وما لويتُ على أهل ولا وطن
فإن تجيبوا أملِّكُكم بلا كذب على الشَّريعة أرضَ الشَّام واليَمن
وأقتني لكم ما ينفعُكم ويحفظ العز من حِصن ومن حُصُن
يا قوم إن تسمعوا مني أكُنْ لكم أصفى من الماء أو من خالص اللبن
وهكذا تتابع الأمر وتوارثوا الفكرة خلفًا عن سلف، وعلى الرغم من مُرور مئات السنين؛ بل ما ينيف عن ألف ومئتي عام إلا أن هذه الجماعة التي تحمل فكرة الإمامة ونظرية الاصطفاء لم تستطع أن "تَتَيَمْنَنْ" أو تصطبغ بالصبغة اليمنية الخالصة على ما في البيئة اليمنية من موروث حضاري عريق، فلا يزالون يحنُّون إلى بلاد فارس، ويعتبرونها السَّند والملاذ، ومن يطلع على "دامغة الدوامغ" للأديب أحمد بن محمد الشامي يدرك ذلك بوضوح ودون عناء، وهو يرد على لسان اليمن الهمداني رحمه الله الذي تغنى وفاخر بيمنيته في ملحمته المشهورة: "الدامغة" وقد رد على "دامغة الدوامغ" للشامي الأديبُ والمؤرخُ الشاعر مطهر بن علي الإرياني رحمه الله في ملحمة أخرى اسمها: "المجد والألم".
والحقيقة كما صورها الشاعر عبدالله حُمران، مخاطبا هؤلاء القوم:
وهبناكم الحكم إذ كنتم تهيمون في بقعٍ خالية
وقلنا يمانون أهل لنا ولا عاشت القيمُ البالية
وصرنا لكم في المُلمَّات جندا وصرتم بنا قممًا عالية
مزجنا خلال السنين الطوال دمانا بكم حرة غالية
ولكنكم رغم مر السنين بقيتم على أرضنا جالية!!
فعلا.. لقد عاشوا بنفسية حاقدة، وروح بغيضة على كل يمني، ولا يزالون. وكل أدبيَّاتهم الدينية والسياسية تقرر ذلك بوضوح، حتى إنهم تعمدوا تدمير المعالم الحضارية والتاريخية لليمن والقضاء عليها، لأنهم يرونها منافسا حضاريا لهم، على الرغم مما تكتنزه اليمن من موروث مهول في هذا الجانب.
من هنا.. ولهذا السبب كان لابد أن يكون لليمنيين موقف تجاه هذا العدوان، وهذا التجني في حق شعب ضارب بجذوره في عمق التاريخ حضارة وتاريخا ومجدا مؤثلا..
مسيرة من النضال وسلسلة من الكفاح التي لما تنقطع حتى الآن، قادَها يمنيون أفذاذ في وجه هذه الطغمة التي أقدمت على ارتكاب أكبر جناية تاريخيَّة على أعرق حضارة ولا تزال، مسنودة بأعداء اليمن التاريخيين، وأعداء الإسلام والمسلمين. تشكلت هذه المسيرة ابتداء بجهود فردية من شخصيات اعتبارية لها حضورها العلمي والاجتماعي والسياسي في المجتمع اليمني، حتى اكتملت بثورة شعبية عارمة في العام 1962م كنستهم إلى الأبد، وإن أطلوا بقرونهم من جديد اليوم بفعل ظرف عارض ساعدهم على ذلك. وسنبسط القول أكثر في الحلقات القادمة عن أعلام كبار من هؤلاء العظماء، ابتداء من لسان اليمن أبي محمد الحسن الهمداني وإلى اليوم.