الخميس 21-11-2024 14:33:48 م : 20 - جمادي الأول - 1446 هـ
آخر الاخبار
ما الذي قدمه العمراني للبشرية؟
بقلم/ محمد دبوان المياحي
نشر منذ: 3 سنوات و 4 أشهر و 6 أيام
الجمعة 16 يوليو-تموز 2021 05:52 م
  

غادر العمراني دنيانا، وتحول حدث موته لمشهد جماهيري مهيب، القطاع الأعظم من الناس عبروا عن حزنهم وانتماءهم لهذا الشيخ الجليل، كثيرون تحدثوا عن عبقريته ورمزيته المتفردة، مثّل الرجل حالة إجماع يمني غير مسبوق ولأن طبيعة المواقف الجماعية لا يمكنها أن تكون بلون واحد وشامل، فقد كان هناك هامش للإعتراض، أصوات محدودة، ذهبت تجدِّف خارج التيار وتقدم ملاحظاتها على الفقيد وتشكك بما يمثله من قيمة معرفية ومكانة تأريخية في حياة الأجيال. 

صرخ ناشط يقول عن نفسه أنه علماني: ما الذي قدمه العمراني للبشرية من جديد؟ 

" إنه لم يفكر قط، لم يتأمل، لم يقرأ كتب وآراء فلاسفة ومفكري العالم، لم يعرف عن دول العالم شيء، لم يحضر مؤتمر دولي، لم يذهب حتى رحلة سياحية مثلًا لدولة أوروبية ليعرف كيف يعيش العالم ويرى ثمرة التنوير وعصر النهضة في أوروبا، ثمرة العلوم التجريبية والمعرفة والاختراع، ثمرة مغادرة كتب الخرافات والأساطير التي غرق فيها العمراني لتسعين عام، كان عاجز جامد مثل القطيع ولذا أصبح بطلهم، بطل السلبية وجمود العقل على موروث متخلف عمره أكثر من ألف عام."

في حقيقة الأمر، الرأي السابق هو نموذج لفئة أو موجة علمانية تدعي انتماءها للحداثة وتحاكم كل شيء من منظور الحالة الواقعية للمجتمعات العربية، تقارن الواقع الحضاري والمادي للشعوب العربية وتعتقد أن التردي السياسي هو نتاج للموروث المعرفي/ الديني لهذه الشعوب، ولهذا تنبرئ لمهاجمته بتلك الصورة التعميمية الخاطئة، تمامًا كالقول أعلاه المناهض للعمراني وميراثه. لا شك أن هذا النوع من النقد سطحي ويفتقد للمحاكمة المنطقية، بل هو يتضمن رؤية نقيضة للفكر العقلاني والتنويري الحقيقي. 

بداية: لا يعلم هؤلاء المتطفلين على الحداثة والعلمانية أن جوهر الحداثة والتنوير الأوربي هو إعادة قراءة للقيم المسيحية من منظور حديث، الحداثة ليست حالة قطيعة شاملة مع الميراث الفلسفي والديني لأروبا؛ بل حالة انبعاث فكري وفلسفي انطلاقًا من مدونتهم الحضارية، لا يوجد أمة تنطلق من العدم، كل ما هو جديد ومستجد يتأسس على ممكنات علمية وعقلية نابعة مما لدى الأمة نفسها. أي أننا كأمة تعاني من انسداد كبير وارتباك واسع، نحتاج للعمراني؛ كي نقرأ ما لدينا ونفتش فيه عن أسس عقلية وتصورات أخلاقية وفلسفة تشريعية ثم نتقاطع معها ونستحثها؛ كي نربطها مع قيم الحياة العصرية ونصل لحالة تناغم ما بين واقعنا وميراثنا، تمامًا كما فعلت أروبا. 

من الواضح إذًا، أن الذين أثاروا نقاشًا حول ما قدمه العمراني من فائدة، منكرين أي جدوى لما قدمه، لا يبدو أنهم اطلعوا على شيء من انتاجه، لديهم تصور عام عن طبيعة ميراثه الفكري، وهو تصور ينظر لكل ما هو ديني بأنه رجعي ومتخلف دون أي تشريح محايد له، وكأن كل ما هو قديم هو عديم الجدوى لمجرد أنه قديم فحسب، بعيدا عن قيمته المعرفية. 

يمثل العمراني ذاكرة معنوية وتأريخية ولغوية ودينية لأمة كاملة من البشر، وليس لشعب بعينه فحسب، هذا الميراث الذي مثلَّه العمراني ليس أمرًا هينًا ولا يمكن التعامل معه كشيء من التأريخ فحسب، بل هو المؤسس المركزي لتصورات الناس عن الحياة والوجود، مصدر لنظام روحي ونفسي تحكم وما يزال يتحكم بحياة البشر منذ آلاف السنين. 

بتكثيف أكبر، نحن أمام مدونة معرفية كلاسيكية هائلة كان العمراني بمثابة قاعدتها الكبرى في عصرنا الحاضر، وهي مدونة ثرية بالطبع، تحوي فلسفة تراكمية، فقه، وحديث ولغة وآداب وتصورات مؤسسية كاملة، ليس من المنطق تجاوزها بتلك الخفة التي يتحدث بها من يدعون تمثيل الحداثة وينادون بدفن ماضي الأمم ؛ كي نلحق بركب الحضارة كما يزعمون. 

في معرض مناقشته للعلاقة بين الفلسفة والدين يقول المفكر التونسي فتحي المسكيني: لقد صرنا اليوم نعرف أنّ المقدّس"الدين" ينطوي هو ذاته على شكل فريد من المعقولية، ينبغي الإنصات إليها ومساءلتها من الداخل دون أيّ أحكام "عقلانية" مسبقة. إن الدين هو أكبر مؤسسة لإنتاج المعنى عرفها البشر منذ بداية الحياة على ظهر الكوكب .

لكأن المسكيني يصف هؤلاء الذين يثيرون جلبة ضد ميراث العمراني، على سبيل المثال ، يقول: " أشعر أنّ ثمّة إرادة تشويش على ثقافة العقل في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. فالكل يعلم، من الفقهاء إلى الفلاسفة، مرورًا بالساسة وكل أنواع المثقفين، أنّ الإسلام الكلاسيكي، مدوّنة وتجارب وآثارًا فنية وفلسفية وعلمية، لم يكرّس أبدًا عقلانية هدّامة لفعالية المقدّس. وإذا لم يكن أسلافنا قد رأوا أيّة فائدة ميتافيزيقية أو وجاهة حضارية في معاداة الشرائع، فلماذا نقوم نحن بذلك، نحن أبناء الأزمنة الحديثة..؟ لماذا نعادي الدين، لمجرد أنه دين، لماذا لا نتعاطى معه كمصدر للمعنى ونتفاعل معه مثل أي ميراث فكري وفلسفي في تأريخ الشعوب..؟ 

الحديث أعلاه لمفكر علماني متبحر جدا في فلسفات العالم كله، يتحدث عن الفلسفة والدين من منظور واقعي، لا يرى الأديان نقيضة للفلسفة الحداثية، ولا مضادة للتنوير؛ بل تصور وجودي مواز، يتوجب أن نستثمره ونستفيد منه في خلق منظورنا الخاص للعالم..من يقنع الأشخاص حديثي العهد بالحداثة بهذه الفكرة؛ كي يخففوا من نزقهم وثقتهم العمياء بمنطقهم المتعصب ضد العمراني وضد كل ما ينتمي لميراثنا..؟

أظن جوهر منطلقهم كما أسلفنا، هو الواقع المسدود والحياة السياسية المضطربة، هذا الخراب ينعكس ويؤثر على نظرتنا للحياة ومشاكلها بل وينتج لدينا تشخيصات خاطئة للواقع. 

بالطبع، حياتنا الواقعية مدمرة ، فشلنا سياسيًا في تأمين حياة مستقرة، في العلوم التطبيقية نحن في ذيل الأمم، ماديًا، متخلفين، ليس لدينا بنية تحتية في مجالاتنا الدنيوية، ليس لنا شوارع فخمة ولا مطارات ولا مصانع...؛ لكن هذا لا يعني أننا متخلفين على مستوى العقل والضمير والذاكرة، لدينا ارتباكاتنا الكثيرة في الوعي؛ لكن لا يعني ذلك أننا فقراء كليا على المستوى المعنوي، ولا يعني ذلك أن التنوير هو تدمير كلي لميراث الأمة، واستقدام شامل لكل ما هو لدى الغرب، هذه فكرة غير منطقية وغير عملية وغير صحيحة.

باختصار: لا يمكننا أن نقف على أقدامنا، إلا انطلاقـا من هذا الذي بين يدينا، نرفض ما لا يصح ونعيد تجديد ما هو منطقي، نشيد بما يستحق، وندين ما يعيق، أما الطريقة العنيفة في التنوير التي يتبناها البعض، ممن يسخرون من العمراني وغيره ، فهي أشبه بنزعة عدمية، حركة تدمير ذاتي، لبشر فقدوا أملهم بأي نجاح وذهبوا يدهسون كل شيء، يصرخون ضد كل شيء، ولا يسمعهم أحد. كل ما يصنعوه هو زيادة حالة التوتر في المجتمعات وتشويش تصوراتها عن الواقع، بدلا من تقديم رؤية منطقية لأسباب بؤسنا، يذهبون لتوجيه سخط الناس تجاه الميراث الديني بشكل عام، هكذا بلغة عمومية مجملة، تضاعف من انسداد الواقع وعبثيته، ولا تسهم في أي حلحلة لمشاكل الأمة. 

أخيرًا: لعل أحد نتائج التردي الواقعي في مجتمعاتنا هو بروز حالة السخط هذه، عداء عبثي ورفض مسبق للميراث الفكري دون أي قراءة عقلية له، هذا الاتجاه العلماني المتطرف يمثل النقيض الموضوعي للإتجاه الأخر، أي أن من يتبنى منطق التدمير الشامل للميراث المعنوي للشعوب، تمامًا كمن يتبنى الإيمان المطلق به كحقيقة نهائية غير قابلة للتفاوض والتجديد، كلاهما يعيقان عملية الإصلاح والتنوير في المجتمعات..من يشكك بأهمية العمراني ومن يدعو للقبول بكل ما قاله وتطبيقه حرفيًا، المتطرفون من كل اتجاه هم دوما مشكلتنا الكبرى، ولن نتجاوز واقعنا حتى نكبح منطقهم ويتسيد المنطق العقلي، التيار الثالث هو طريق الخلاص الأكثر أمانا وموثوقية.