الثلاثاء 03-12-2024 21:27:33 م : 2 - جمادي الثاني - 1446 هـ
آخر الاخبار
من أساليب الجدل في القرآن الكريم الحلقة (1)
بقلم/ عبدالعزيز العسالي
نشر منذ: 7 سنوات و 3 أشهر و 24 يوماً
الأربعاء 09 أغسطس-آب 2017 05:36 م

المتأمل في منهج الجدل في القرآن الكريم سيجد أنه تضمن أساليب مختلفة ومتعددة وعلى الأقل يمكن القول إنها تقارب الثمانين أسلوباً, منها ماله صلة بالبلاغة، ومنها بالنحو، ومنها بالقياس، ومنها بالمنطق ومنها بمفردات اللغة، ومنها بحروف مفردة، ومنها بالحروف المركبة وهكذا!


وبالتالي فإنه من الصعوبة اختزال هذه الأساليب في مقالة أو اثنتين.

غير أني وبعد طول تأمل في هذا الجانب – والذي كان يشغلني لسنوات - وجدتُ أن أقرب الأساليب وأكثرها وضوحاً بالنسبة للقارئ, كما أنها تكاد تكون أبرز الأساليب وأهمها حضوراً في المنهج الجدلي القرآني, فاستقر اختياري على هذه الأساليب وتقديمها للقارئ مع إيراد الأمثلة تحت كل أسلوب وحسب المستطاع حتى لا يطول بنا المقام.


مع ملاحظة يحتاجها القارئ, وهي إن هذه الأساليب وغيرها يحصل تداخل بينها، وبالتالي لا يستغرب إذا وجد التداخل أثناء النقل والتفصيل، فالأمر اجتهادي عند العقلاء والمفكرين, وكما هو معروف لكلٍ اصطلاحاته. لكنهم يلتقون عند الأمثلة، وهذه الأساليب الثلاثة التي سأكتب حولها في حلقات ثلاث -بإذن الله- هي على النحو التالي:
1- أسلوب المنع
2- أسلوب النقض
3- أسلوب المعارضة


سأتناول كل أسلوب في حلقة واحدة وبطريقة مركزة مراعاة للحيز المتاح في موقع النشر, تاركاً الأمر للقارئ للعودة إلى القرآن الكريم والتأمل في ثنايا الحوار، والتي ستكون هذه المقالة بمثابة الإشارات والمفتاح أو طرق الباب؛ فليس من الصحيح إعطاء كل شيء، بل وضع إشارات وترك القارئ مع القرآن يسترسل مع الآيات ويتأمل في أساليبها فسيجد هناك الكثير.


أولاً:
أسلوب المنع: ومفهومه بشكل مبسط يعني: أن شخصاً يضع مقدمة لحديثه ثم يبني عليها نتيجة – وهذا من الحوار المستعمل بكثقافة لدى الكثير - فتكون النتيجة هي دليله على قضية يريد إثباتها فيتصدى له آخر بأسلوب المنع وأسلوب المنع يتجه لهدم المقدمة التي اعتمدها المدعي، أو هدم بعض أجزائها، فإذا امتنع صدق المقدمة بطلت النتيجة المترتبة عليها ..


لنتأمل الأمثلة التالية:

1- ادعى اليهود والنصارى أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، والدليل عندهم هو أن إبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية السمحة وهم على ملته، وعليه فان إبراهيم سيكون يهودياً بالضرورة الخ.


فجاء المنهج الجدلي القرآني عبر أسلوب المنع يهدم المقدمة من أساسها ويقرر بأن التوراة نزلت بعد إبراهيم بقرون فيقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(65).


هنا انهدمت المقدمة التي ادعاها اليهود أنه كان يهودياً أو نصرانياً،


وكما هو معروف أن اليهودية عرقية سلالية متأخرة جداً، وهنا كان الرد {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (67) آل عمران.

وقد نزلت بعد إبراهيم بقرون طويلة, وهنا فأسلوب المنع اتجه لهدم المقدمة بالكامل!


لنتأمل في المثال الثاني:
ادعى المشركون أن لله شريكٌ ونصير، وتعالى الله عما يقولون، فجاء المنهج الجدلي القرآني يقدم أسلوب المنع قائلاً: {لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (22) الأنبياء.


وهناك آيات أخرى تصب في هذا الاتجاه الواضح والصريح, وهنا يقول الله لهم إن المشاهدة المحسوسة تعطينا دليلاً على التطاحن والتصارع بين الأقران، حروب مشتعلة الأوار لا تهدأ، وهده الحروب هي سبب فساد وإفساد المجتمعات، وعليه: فإنه نتاج صراع الأقران – ملوكاً وسلاطين وما شابههم ماثله للعيان - وهذا ما لا ينطبق على النظام الكوني المستقر فلم يختل نظامه منذ ملايين السنين, وبما أن الكون متسق النظام ولم يعتريه أي فساد؛ فهذا دليل وحدانية الخالق، ولو كان فيهما آلهة لنازعوا الخالق الواحد في السيطرة على العرش {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إلي ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا}(42) الإسراء.


إذاً: قولكم أيها المشركون بوجود آلهة وشركاء الله منقوض عقلياً ومنطقياً، فاستقرار نظام الكون دليل وحدانية الله ووحدانية الله يلزم منها سلامة، واستقرار نظام الكون والعكس هو القول بتعدد الآلهة يلزم فساد الكون.


نعود هنا إلى الأسلوب الثالث:
أسلوب القلب: هذا شكل فرعي يستخدمه بعض المناطقة والجدليون تحت أسلوب المنع ويسمى أسلوب القلب؛ لأن الدليل ينقلب ضد صاحبة.. مثاله:


- ادعت النصارى: أن عيسى وأمه آلهة مع الله، فجاء المنهج الجدلي القرآني يخاطبهم يا بني إسرائيل {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} (75) المائدة.
إنهما يأكلان الطعام كسائر الناس: تضمن النص لازمة منطقية لا يستطيع النصارى تكذيبها وهي أن الذي يأكل الطعام يحتاج إلى دخول الخلاء (الحمام)، وهذا شأن كل من يأكل الطعام أنه يعتريه نقص بشري واضح ومثل هذا لا يكون إلهاً إنما هو رسول وأمه صديقة وليسوا آلهة.


هذا الشكل من الجدل يقوم على لازمة يعترف بها مدعي الغلو، هذه اللازمة وظفها القرآن وقلبها على صاحب الغلو، باختصار: من يأكل يلحقه النقض ومن يلحقه النقض ليس إلها وتكميلاً للفائدة:
6 - يدخل تحت هذا الأسلوب القلب والمنع، ما يدور اليوم على الساحة الإسلامية, كالصراع السياسي الشيعي السني باسم وصية غدير "خم"، حيث يدعى المتشيع أن الخلافة والحكم وصية إلهية وقدر ملازم لعلي وأولاده وذريته ملازمة أرواحهم لأجسادهم، والدليل وصية الرسول يوم الغدير..


وهنا يأتي المنهج الجدلي ليقول: هذه الوصية لم يذكرها علي يوم السقيفة، ولا يوم بيعة عمر ولا بيعة عثمان ولا يوم التقاء جيشه مع جيش معاوية، ولا ذكرها الحسن يوم تنازله عن الحكم لمعاوية, هذا بناء على مقدمة دعواكم أن الإمامة دين ومعتقد!, يعني أنكم تكفرون الحسن ابن علي، ثم أنه لما تنازل: لم يعترض عليه أحد من إخوانه ولا من قريش ولا من عيال العباس، إذاً: هذه مواقف ذوي الشأن تقول لا وجود للوصية، وإذا امتنع وجودها بطل القول بالحق الإلهي أولاً، وبطل القول بأن الحُكم من أصول الدين ثانياً.


ولأن الثقافة الفكرية المذهبية الشيعية فشلت إزاء المنهج الجدلي حول الوصية لجأت لإنكار القياس والمنطق الفلسفي الدنيوي، والغريب أن أهل السنة انساقوا مع الثقافة الشيعية فيرفضون الشيعة سياسياً ويتقبلونهم فكرياً ونظرياً وثقافياً, وهذه هي إحدى المحن في فكرنا السني مع الأسف وقد تناولن جانباً من ذلك في مواطن أخرى وربما نعود إليها مستقبلاً لتناولها بالتفصيل!